العجز في المنطقة يقلب رأساً على عقب توازن العرض والطلب على الصعيد العالمي
التحدي الذي تواجهه منطقتنا، هو ضرورة العثور وتطوير مصادر جديدة من الطاقة، وفي طليعتها الغاز الطبيعي. وهذا واحد من أهم العوامل التي تشير إلى أن أسعار الغاز، على المدى البعيد، تميل إلى الارتفاع، لا العكس. وإن كان لبنان قد سجل بعض التأخير بالنسبة لـ «إسرائيل» وقبرص في هذا الصدد، فهذه ليست كارثة. الكارثة الحقيقية والأكيدة ستكون حتماً في العمل الاعتباطي والسياسات غير الشفافة التي من شأنها أن تخدم مصالح الشركات الأجنبية، أو مصالح أخرى لا علاقة لها بالمصلحة العامة
يرى البعض أن لبنان معرض لخسائر كبيرة بسبب التأخر في إقرار مرسومين لتطبيق القانون البترولي الرقم 132/2010، ومن ثَم في إعطاء الضوء الأخضر لإبرام اتفاقيات تنقيب وإنتاج مع شركات أجنبية، وانطلاق صناعة البترول والغاز الطبيعي. وفي طليعة ما تستند إليه وجهة النظر هذه، أن إسرائيل، وربما قبرص غداً، سبقت لبنان في هذا المجال، وباشرت توقيع عقود تصدير مع السلطة الفلسطينية، ومفاوضات لتصدير الغاز إلى الأردن وقبرص ومصر، أي إلى أسواق قريبة وطبيعية للغاز المتأمل إنتاجه على مقربة من الشواطئ اللبنانية.
أخيراً، أخذ البعض يلوح بالراية الحمراء تحذيراً من خطر الغاز الصخري الأميركي ومن الغاز الذي أخذ يتدفق من آسيا الوسطى، مما يهدد بتضخم العرض وانهيار عام في الأسعار، وينعكس سلباً على لبنان.
فما هو يا ترى مدى صحة وجهة النظر هذه؟ وماذا يمكن للبنان فعله لتجنب مثل هذه المحاذير والمخاوف، إن صحّت؟
طبعاً كان الأفضل للبنان أن يكون أول بلد منتج ومصدر للبترول والغاز في شرق البحر المتوسط، وكان الأفضل من ذلك أن يكون ويبقى الأول والوحيد، شرط أن تنطلق هذه الصناعة في كل الأحوال، ومهما كان التاريخ، على أسس سليمة، ولكن بما أن الأمور ليست دائماً كما نرجو، وخاصة من حيث إعداد نظام عادل ومقبول للاستثمار، فلا بد من النظر إلى الموضوع بواقعية، أي على ضوء التطورات المرتقبة في أسواق الغاز العالمية على نحو عام، وفي الأسواق القريبة من لبنان، أي محيطه الجيوغرافي، على نحو خاص.
هذه التطورات كلها، شأنها في ذلك شأن الدراسات والتطلعات المستقبلية الأكثر صدقية، تشير إلى أن عامل الوقت يلعب، على المدى البعيد، لمصلحة الدول المنتجة، وأن التحدي الذي يواجهه العالم أجمع لا يكمن في إيجاد أسواق للغاز المنتج، بل على عكس ذلك، في العثور على حقول وتطوير طاقات إنتاج وتصدير جديدة لتغطية الزيادة السريعة في الحاجات.
1- زيادة الاستهلاك تفوق زيادة الإنتاج
حدثان جديدان يؤكدان هذا التطور الملحوظ في أسواق الغاز على المدى البعيد. الحدث الأول هو التطور المقلق الذي نبهت إليه أخيراً وكالة الطاقة الدولية لإنتاج واستهلاك الغاز في منطقة الشرق الأوسط، أي كل البلدان العربية وإيران وفق تصنيف الوكالة. ذلك لأن التقديرات تشير إلى أن حاجات استهلاك الغاز في هذه المنطقة ستفوق الإنتاج عام 2019، وأن الفارق بين الاثنين سيزداد في السنوات اللاحقة إن لم تتخذ تدابير جذرية لتدارك هذا الوضع الذي يعني أن الشرق الأوسط سيصبح في إجماله منطقة مستوردة للغاز، بدلاً من أن يظل كما هو الآن في طليعة البلدان المصدرة.
ويوجز تقرير جديد نشرته الوكالة المذكورة في حزيران/يونيو 2014 الوضع بالقول أن إنتاج الغاز في الشرق الأوسط سيرتفع من 582 مليار متر مكعب عام 2013 إلى 658 مليارا عام 2019، أي بزيادة 13.2%، فيما سيرتفع الاستهلاك المحلي خلال الفترة نفسها من 426 إلى حوالى 535 مليار متر مكعب، أي بمعدل 26%، وهو ضعف زيادة الإنتاج. والمقلق في الموضوع أنه لا يكمن فقط في العجز الذي يواجهه الشرق الأوسط في سد حاجاته المحلية، بل أيضاً في كون هذا العجز يقلب رأساً على عقب توازن العرض والطلب على الصعيد العالمي.
أما الحدث الثاني، الذي لا يقل أهمية بالنسبة إلى لبنان، فهو ما أُعلِن رسمياً في الجزائر، ولأول مرة في أيار/مايو 2014 حول تراجع صادرات الغاز من هذا البلد، وهو أكبر منتج ومصدر للغاز الطبيعي في منطقة البحر المتوسط، واحتمال نضوبها تماماً بعد بضع عشر سنوات، أي انتقال الجزائر من وضع يحتل فيه المرتبة السادسة بين مصدري الغاز في العالم، وخاصة إلى أوروبا الغربية، إلى وضع بلد قد يحتاج عند حلول الثلاثينات إلى استيراد جزء من حاجاته.
هذان الحدثان الجديدان، سواء في ما يخص الشرق الأوسط أو الجزائر، يثبتان التطورات المنتظرة (والطبيعية) التي يتناولها العديد من الدراسات منذ أعوام طويلة حول التحدي الكبير الذي يواجهه العالم من جراء الزيادة السريعة في حاجات استهلاك الطاقة، من جهة، وتراجع احتياطي واكتشافات مصادر الطاقة التقليدية (البترول، والغاز الطبيعي والفحم)، من جهة ثانية.
على المستوى العالمي أولاً، كل الدراسات والتطلعات الخاصة بمستقبل أسواق الطاقة، وفي طليعتها تقارير وكالة الطاقة الدولية أو وزارة الطاقة الأميركية، أو الشركات البترولية الكبرى تشير إلى أن حاجات العالم من مصادر الطاقة الأولية ستفوق 17 مليار طن مكافئ بترول عام 2035، أي بزيادة الثلث عن عام 2010. وهذه زيادة تضاهي مجموع الاستهلاك العالمي الحالي من البترول. ومن بين مختلف مصادر الطاقة التقليدية، يمتاز الغاز الطبيعي بأعلى زيادة نسبية في الطلب، وذلك لعدة أسباب، أهمها التوزع الجيوغرافي للاحتياطي، والتطور التكنولوجي في وسائل نقله واستعماله، ومساهمته في الجهود الرامية لمكافحة تلوث البيئة والتغير المناخي. ومن الأمثلة على ذلك ما يحدث في الصين التي كانت بلداً مصدراً للغاز حتى عام 2007، قبل أن تصبح في طليعة البلدان المستوردة. ومن المنتظر أن تستوعب الصين خلال السنوات المقبلة كامل الزيادة في إنتاج آسيا الوسطى من الغاز، إضافة إلى ثلث صادرات العالم من الغاز المسيّل.
2 -عجز غاز يتفاقم في البلدان العربية
الأكثر دلالة من ذلك بالنسبة إلى لبنان هو زيادة الحاجات في البلدان المجاورة أو القريبة، أي منطقة شرقي البحر المتوسط ومصر وأفريقيا الشمالية، حيث ستكون زيادة الطلب على الطاقة أعلى بكثير من المعدل العالمي، إذ إنها ستراوح بين 2.5 و3 أضعاف متوسط وتيرة زيادة الطلب في العالم.
وفي ما يخص الغاز الطبيعي، يشير تقرير نُشر أخيراً تحت إشراف الاتحاد الأوروبي في بروكسيل إلى أن استهلاك الغاز قد ازداد سبعة أضعاف في هذه المنطقة ما بين عامي 1970 و2009، وأنه سيرتفع إلى 6 مليارات طن مكافئ بترول عام 2030، مما يعني زيادة تقارب ثلاثة أضعاف متوسط الزيادة في العالم.
التقرير نفسه يشير أخيراً إلى أن الغاز سيكون المستفيد الأكبر من هذه الزيادة التي تعود بالدرجة الأولى إلى الحاجات الهائلة لتوسيع طاقات إنتاج الكهرباء (وهذا موضوع نعرفه جيداً في لبنان!). ويقدر مجموع طاقات الإنتاج الإضافية اللازمة في هذه المنطقة بما لا يقل عن 190 جيغاواط، مما يجعل منه هدفاً صعب المنال.
3 -خطر إقدام إسرائيل على «سرقة» الغاز الطبيعي
في طليعة الذرائع التي يرددها البعض للضغط على الحكومة اللبنانية، بغية إقرار المرسومين المتعلقين باتفاقيات التنقيب والإنتاج، القول أن إسرائيل باشرت أو قد تباشر بضخ الغاز اللبناني من تحت مياه المنطقة المتنازع عليها بين البلدين، وذلك انطلاقاً من حقل كاريش الذي اكتًشف على الجانب الإسرائيلي.
والحقيقة هي أن إسرائيل لن تتردد طبعاً ثانية واحدة في سرقة كل ما يمكن سرقته من لبنان، كما سبق لها أن سرقت منه الأرض والمياه، فضلا عما سرقته من فلسطين وكل جيرانها. أما في ما يخص الغاز والبترول، فإن موضوع سرقتهما من تحت المياه اللبنانية يستلزم توضيح النقاط التالية:
أ -يبدو مبدئياً أن من الممكن الإقدام على هذه السرقة بواسطة حفر ومد أنبوب على خط أفقي ينطلق من منطقة حقل كاريش على مسافة 10-12 كيلومتراً، حتى حقل بترول أو غاز محتمل وجوده على الجانب اللبناني من الحدود البحرية، لكن هذا مجرد فرضية، إذ إنه لم يظهر حتى الآن أي وجود لمنشآت بترولية أو غيرها على مقربة من حقل كاريش. هذا اللهم إلا إذا ابتكرت إسرائيل أسلوباً آخر للسرقة على طريقة أفلام جيمس بوند.
ب -إذا افترضنا جدلاً أن إسرائيل بدأت أو قد تبدأ فعلاً بمد يدها لسرقة ثرواتنا، فالحل يكمن في الخطوات الدبلوماسية والسياسية اللازمة على الصعيد الدولي لمنعها من ذلك. وهذا يعني بادئ ذي بدء استكمال التدابير الرامية لتصحيح الخطأ الذي جرى عام 2007 في ترسيم الحدود مع قبرص، ومن ثم على نحو غير مباشر مع إسرائيل، التي سارعت لاستغلال هذا الخطأ. تصحيح هذا الخطأ ضرورة ملحة ليس فقط لإعادة الأمور إلى نصابها والحقوق إلى أصحابها، بل أيضاً لنزع فتيل حرب جديدة نحن بغنى عنها مع العدو الإسرائيلي.
ويجدر التذكير هنا بأنه سبق لإسرائيل أن هددت باستعمال القوة للدفاع عما تعده «حقاً» لها، كما سبق للسيد حسن نصر الله أن رد على هذا التهديد بالتأكيد على إمكانية توجيه الصواريخ إلى المنشآت الإسرائيلية. ومن المعروف أن إسرائيل قامت في أعقاب ذلك بإعادة النظر في مشروع بناء مصنع تسييل غاز على مقربة من شواطئها، للاستعاضة عنه بمصنع في قبرص، كما تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن صفارات الإنذار قد انطلقت أخيراً ودب الهلع على منصات إنتاج الغاز فوق حقل تامار الإسرائيلي عندما تعالى الدخان فوقها، وظن العاملون عليها لأول وهلة أن السبب كان سقوط صاروخ أُطلق من غزة.
استهلاك الغاز قد ازداد سبعة أضعاف في هذه المنطقة ما بين عامي
1970 و2009
مع العلم أن ما يقارب نصف العاملين في المنشآت البترولية الإسرائيلية هم من رجال الأمن والحماية.
ج -أما القول بأن إقرار المراسيم المجمدة هو الحل لمنع سرقة ثرواتنا من المنطقة البحرية المتنازع عليها، فإنه يصطدم بعقبتين على الأقل. العقبة الأولى هي أنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل إقناع شركة بترولية كبرى بتوظيف المليارات من الدولارات في منطقة يغطيها نزاع بحدة النزاع القائم بين لبنان وإسرائيل.
أما العقبة الثانية والأهم فهي أن إقرار المرسومين المشار إليهما يعني إعطاء الضوء الأخضر لتوقيع عقود تنقيب وإنتاج في مناطق لبنانية أخرى. وذلك انطلاقاً من نصوص سرية تنطوي على العديد من الانحرافات، ولا يمكنها أن تؤدي، إن لم يُعد النظر فيها، إلا لخسائر مالية فادحة وكارثة اقتصادية وسياسية للبنان. وهذا ما يسمى محاولة مداواة الداء بداء أكبر وأشد فتكاً.
4 -آفاق واسعة للتصدير من شرقي البحر المتوسط
العجز المتفاقم لإمدادات الغاز الطبيعي في البلدان العربية يفتح بطبيعة الحال الباب واسعاً أمام إنتاج الغاز الذي بدأ في منطقة شرقي المتوسط. وقد سارعت إسرائيل لانتهاز هذه الفرصة وباشرت عقد اتفاقيات تصدير إلى الضفة الغربية والأردن ومصر، إضافة إلى التفاوض حول تصدير كميات كبيرة إلى تركيا واليونان وإيطاليا وغيرها.
الاتفاق الأول جرى عام 2013 مع السلطة الفلسطينية لتزويد محطة كهرباء بما قيمته 1.2 مليار دولار لمدة 20 سنة. تلى ذلك في أيلول/سبتمبر 2012 اتفاق مع الأردن لتزويده بالغاز الطبيعي من حقل ليفياتان بقيمة 15 مليار دولار خلال 15 سنة.
أما في ما يتعلق بمصر، فمن سخريات القدر أنها كانت، قبل التفكير في استيراد الغاز الإسرائيلي، في طليعة مصدري الغاز إلى إسرائيل. وقد بدأت صادراتها في منتصف عام 2003 حتى بلغت 16 مليار متر مكعب، من أصلها 4 مليارات إلى الأردن وسوريا ولبنان و2 مليار إلى إسرائيل. لا بل إن مصر بنت مصنعين لتسييل الغاز الذي أخذت تصدره إلى أوروبا على نحو خاص، إلا أن الوضع انقلب رأساً على عقب عندما تبين في منتصف 2010 أن الاحتياطي الثابت يتضاءل بسبب تراجع الاكتشافات الجديدة، فيما أخذت حاجات الاستهلاك تزداد بوتيرة أعلى مما كان متوقعاً. وكانت النتيجة توقف التصدير على نحو شبه كلي، والبحث عن مصادر استيراد لسد عجز متزايد. وقد جرى حتى الآن توقيع اتفاق مبدئي مع إسرائيل في أيار/مايو 2014، كما بدأت المحادثات مع قبرص للغرض نفسه. أخيراً لا آخراً يستمر التفاوض على قدم وساق مع الاتحاد الأوروبي حول دعم مالي وسياسي من دول هذا الاتحاد لبناء خط أنابيب يربط الحقول الإسرائيلية وحقل افروديت في قبرص باليونان وإيطاليا وغيرها من البلدان الأوروبية.
ومن المؤسف أن لبنان قد تأخر عدة سنوات في مواكبة هذه التطورات السريعة. وقد جاء هذا التأخر نتيجة لعدة عوامل أهمها الخلاف حول ترسيم الحدود البحرية مع قبرص وإسرائيل وشتى أنواع الانحرافات التي سبقت الإشارة إليها في مقال سابق (http://www.al-akhbar.com/node/218306)، مما أدى إلى امتناع مجلس الوزراء عن إقرار المرسومين الخاصين بمشاريع الاتفاقيات المقترحة مع الشركات الأجنبية.
يضاف إلى ذلك التأخر في إصدار القانون الخاص بضريبة الدخل وغيرها من الالتزامات المالية الخاصة بالشركات البترولية. أما اليوم، فالأمل كل الأمل أن يجري تدارك هذا التأخر وتصحيح الانحرافات بأسرع ما يمكن كي تعود سياسة البترول والغاز في لبنان إلى مسارها الطبيعي والسليم. وعندما يجري ذلك يصبح بالإمكان البدء بعمليات التنقيب والإنتاج. إنتاج نحن بأمس الحاجة إليه لتغطية استهلاك محلي أصبحت قيمته تفوق 5 مليارات دولار سنوياً.
تضاف إلى ذلك إمكانية واسعة للتصدير، إذ إن حاجات الاستيراد في الدول العربية وغيرها أكبر بكثير من الصادرات المرتقبة من إسرائيل وقبرص.