في تشرين الأول 2022، أضاع لبنان فرصة ثمينة للخروج من الأزمة، بسوء إدارته ملف ترسيم حدوده البحرية مع إسرائيل واستثمار موارده من الغاز. واليوم، يُخشى أن يكون قد أضاع الفرصة الثانية، إذا أساء إدارة الشق اللبناني من الاتفاق بين السعودية وإيران.
عندما وقّع لبنان اتفاق الترسيم مع إسرائيل، وأُطلِقت الوعود بالمباشرة سريعاً في عمليات التنقيب ثم الاستخراج، كان الخبراء يرصدون ردَّ فعل السوق المالية، التي غالباً ما تكون مؤشراً دقيقاً لاتجاهات الوضع السياسي.
توقّع هؤلاء أن تقود صدمة الترسيم إلى تحسّنٍ أو ثباتٍ في وضع الليرة بعد انهيارات متتالية، وإلى انتعاش بعض المؤشرات والأرقام المتعلقة بالاستثمار والنمو، خصوصاً مع إعلان بعض مؤسسات التصنيف الدولية يومذاك، أنّها مستعدة لمراجعة تقويمها للوضع اللبناني في ضوء المعطى الجديد.
كان الترسيم أول فرصة حقيقية لنهوض لبنان، منذ انكشاف انهياره في تشرين الأول 2019. والتغطية الإقليمية والدولية النادرة التي حظي بها هذا الاتفاق كان يُفترض أن تؤدي إلى فك الحصار ووقف العقوبات المفروضة على البلد منذ سنوات وأوصلته إلى الهاوية.
ولكن، ما حدث شكَّل صدمة سلبية. فقد سقطت الليرة في انهيارات متتالية على مدى الأيام القليلة التي أعقبت توقيع اتفاق الترسيم، فيما بقيت تتفاقم الأوضاع السياسية والمالية والاقتصادية. وهكذا، تبيَّن أنّ لبنان ممنوع من الشفاء أو حتى التحسُّن حتى إشعار آخر.
اليوم، جاء الاتفاق السعودي- الإيراني مفاجئاً من حيث التوقيت على الأقل. ونظر المراقبون باهتمام إلى مؤشرات المال والاقتصاد، لما لها من مدلولات سياسية أيضاً. وعلى رغم أنّ الوقت ما زال مبكراً للاستنتاج، فإنّ الانهيارات الكبيرة التي تعرّضت لها الليرة في الأيام الأخيرة لا توحي بالاطمئنان. وفي العادة، ذوو المال هم الأسرع في التقاط الإشارات السلبية أو الإيجابية، لأنّ أموالهم تكون على المحك.
ليس طبيعياً أن تنهار الليرة بهذه القوة والسرعة في لحظة الإعلان عن تسوية إقليمية ربما تُترجَم بتسويات محلية. وهذا الانهيار، بوصول الدولار إلى عتبة الـ100 ألف، يعني على الأقل أنّ ذوي القدرات اشتروا الدولار لأنّهم يدركون أنّ سعره لن يتراجع في المدى المنظور، وقد يحقق ارتفاعات إضافية، في غياب التسوية السياسية.
بعبارة أخرى، قد لا يكون انهيار الليرة والصعود الصاروخي والحادّ للدولار، ورمزية تحطيمه حاجز الخمسة أصفار النفسي، مجرَّد تلاعب تجاري غير مشروع بالعملة الوطنية بهدف تحقيق الثروات، بل رسالة اعتراض سياسي من بعض الجهات النافذة تجاه اتفاق بكين.
وإذ بدأ التعبير عن هذا الاعتراض في الأسواق المالية، فمعنى ذلك أنّه سيُترجَم في أماكن أخرى أيضاً وبأساليب مختلفة. وفي ظلّ الفوضى والانهيار المالي، يمكن لكثير من النافذين أن يتدخّلوا في السوق ويتحكّموا باتجاهاتها صعوداً أو نزولاً، وفقاً للمصالح.
في الأيام المقبلة، ستظهر مفاعيل اتفاق بكين على الساحات اللبنانية والسورية والعراقية واليمنية. وسيظهر تحديداً هل السعوديون سيكونون الأقوى تأثيراً في لبنان أم الإيرانيون، وهل يمكن أن تتمّ صياغة تسويات متوازنة بين الطرفين؟
غالبية الخبراء يرجحون فرضية أنّ الاهتمام السعودي سيبدأ قوياً في اليمن لينتهي ضعيفاً في لبنان، فيما الاهتمام الإيراني سيبدأ قوياً في لبنان وينتهي ضعيفاً في اليمن، حيث سيُترَك للسعوديين، والخليجيين عموماً، أن يشعروا بالاطمئنان إلى أمنهم. وبذلك، تصبح المواجهة مرجحة بين إيران وخصومها على الساحة اللبنانية، ولاسيما الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين وإسرائيل.
ولكن، قد تُقرِّر طهران تَجنُّب هذه المواجهة بعقد تسويات موضعية تهدئ من توتر الأميركيين، على غرار اتفاق الترسيم البحري، لانشغالاتها الكثيرة: ترتيب علاقاتها مع الخليج، التنسيق مع روسيا والصين، استكمال نمو قدراتها النووية بهدوء وإخماد الحراكات الشعبية في الداخل الإيراني. ولذلك، قد تحاول كسب الوقت في لبنان بمقايضة مع الولايات المتحدة، كما فعلت في الخريف عندما منحت حلفاءها الضوء الأخضر لتوقيع اتفاق ترسيم الحدود.
في تشرين الفائت، قدَّمت طهران إلى الأميركيين والإسرائيليين اتفاق ترسيم في المتوسط، سهَّل إمرار الغاز إلى أوروبا. وفي رأي البعض، أنّها ربما تقدّم إلى الولايات المتحدة اتفاق ترسيم في البرّ أو ما يشبه ذلك، إذا وجدت حاجة إلى ذلك.
ولكن، ما هو المقابل الذي ستحصل عليه إيران؟ هل هو تكريس النفوذ في السلطة: رئاسة الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي؟ وهل سيقبل الأميركيون بالصفقة الموضعية الصغيرة مع إيران، فيما يدها طليقة في الملف الأساسي، أي الملف النووي؟