Site icon IMLebanon

والفرصة الرابعة… ضائعة

 

فوّت «حزب الله» على اللبنانيين ثلاث فرص أساسية لقيام الدولة الفعلية التي من دونها سيبقى لبنان يتخبّط في أزمات لا تنتهي، ويستحيل على أي بلد ان يستقر ويزدهر إذا لم تكن الدولة المرجعية الوحيدة الناظمة لشؤون هذا البلد، فهل يفوِّت عليهم الفرصة الرابعة؟

ما تقدّم ليس بيتاً من قصيدة شعرية، ولا وجهة نظر سياسية، إنما ينمّ عن خلاصة فعلية وعملية لوقائع مثبتة وتجربة سياسية طويلة دلّت الى انّ التعايش بين منطق الدولة ومنطق الدويلة غير ممكن، وان لبنان سيبقى في دوامة العنف والحروب والفشل والفقر وعدم الاستقرار والعزلة، والكلام لا يقتصر عن مشروع غلبة على المستوى السياسي، لأنه لو شكل هذا المشروع تنافسا إنسانيا حضاريا لكان، ربما، تمّ غَض النظر عنه مؤقتا على رغم ان المساواة بين أفراد المجتمع تشكل المدخل الأساس للاستقرار، ولكن هذا المشروع تدميري لكل القيم الإنسانية والحضارية، والدليل عصر الانحطاط الذي دخله لبنان مع إمساك هذا الفريق بمفاصل القرار، حيث فقد كل ميزاته التفاضلية في العلم والثقافة والصروح الجامعية والطب والاستشفاء وعالم المال والمصارف وكبريات الشركات العالمية والسياحة واللائحة تطول.

والوضع الكارثي الذي انزلق إليه لبنان ليس نتيجة لتغييب الدولة فقط، إنما لأنّ مشروع الممانعة في عمقه ينظر إلى الإنسان كأداة حرب وقتال، وليس كقيمة حضارية دورها تطوير المجتمعات وتحديثها من أجل توفير أفضل المستلزمات الحياتية للمواطن الفرد، وهذا الخلاف الجوهري في النظرة إلى الإنسان قاد لبنان إلى الهلاك، لأن الأزمة أعمق من خلاف بين سلاح شرعي وغير شرعي على رغم كارثيته، وتتعلّق بالمفهوم الإنساني الحضاري.
وبفعل الخلاف حول مفهوم الدولة ودورها ومفهوم الإنسان ودوره، دخل لبنان في انهيار ما بعده انهيار، وكل الفرص التي لاحت في الأفق لإنهاء الحرب الباردة والساخنة تم إسقاطها تباعا، حيث فوّت «حزب الله» على اللبنانيين، لغاية اليوم، ثلاث فرص تاريخية لقيام دولة فعلية وإحياء تجربة تعايشية وإعادة الاعتبار لدولة صغيرة بحجمها الجغرافي وكبيرة بمفعولها الإنساني والحضاري:

الفرصة الأولى تمثلّت في رفض تسليم سلاحه على أثر تسوية اتفاق الطائف التي أنهت الحرب بين اللبنانيين بحجة انه مقاومة لا ميليشيا، وهذه الحجة ساقطة ليس فقط لأن الدستور لا يتحدّث عن مقاومة، إنما لأنّ الصراع في الحرب كان بين المسيحيين والمسلمين، ولا يمكن للمسيحيين ان يسلمّوا بأن يبقى السلاح بيد فريق مسلم شيعي، هذا عدا عن انّ هذا الفريق عبّر علناً عن رفضه لاتفاق الطائف وسعيه إلى تشييع لبنان.
فتمسُّك «حزب الله» بسلاحه فوّت على اللبنانيين فرصة تاريخية لطَي صفحة الحرب وإزالة الحواجز بين المناطق والنفوس وعودة لبنان سويسرا الشرق، وهذه الخطيئة لا يجب المرور عليها مرور الكرام كونها كانت محطة نادرة واستثنائية، وكان يجب ان يسلِّم سلاحه أسوة بالميليشيات الأخرى تمهيداً لقيام الدولة الفعلية، ولكنه أبقى على سلاحه فاستمرت الحرب اللبنانية بأشكال أخرى.

الفرصة الثانية التي كان بإمكان «حزب الله» توظيفها في المشروع اللبناني لو كان لديه الحدّ الأدنى من قناعة في مشروع من هذا القبيل تتعلّق بالخروج الإسرائيلي من لبنان في العام 2000، ومفاجأة هذا الانسحاب أربكَت محور الممانعة الذي كان يريد بقاء الجيش الإسرائيلي في لبنان تبريراً لما يسمّى مقاومته، فاخترع على عجل مزارع شبعا من أجل ان يُبقي لبنان ساحة لنفوذه وسياساته.

وقد شكل الانسحاب الإسرائيلي من لبنان فرصة جدية كان يجب ان يلتقطها «حزب الله» ويسلِّم سلاحه ويلتحق بمشروع الدولة، لكنّ تمسّكه بسلاحه يؤكد تمسّكه بمشروعه الذي يقوِّض الدولة ويشكل نقيضاً للتعددية اللبنانية، وكل ذريعة المقاومة والدفاع عن لبنان ساقطة، لأن من يريد الدفاع عن لبنان لا يستقوي على اللبنانيين بالسلاح، ولا يخرج للقتال دفاعاً عن النظام السوري، ولا يدرِّب ميليشيات وفصائل عراقية وفلسطينية وبحرينية، ولا يزعزع استقرار بعض دول المنطقة، ولا يصادر قرار الدولة وكأنه الوصي على الشعب اللبناني «القاصر».

الفرصة الثالثة التي فوّتها «حزب الله» على اللبنانيين كانت مع خروج جيش الاحتلال السوري من لبنان، وكان بإمكانه مع هذه الفرصة التاريخية تسليم سلاحه وإعطاء إشارة بأنه كان مغلوباً على أمره شأنه في ذلك شأن جميع اللبنانيين الذين أُخضعوا لاحتلال لمدة 15 عاما، ولكن كما هو متوقّع ربطاً بمشروعه السياسي والديني فَوّت على لبنان واللبنانيين فرصة إعادة الاعتبار لمشروع الدولة، ووضع كل ثقله وجهده لأن يَرث دور النظام السوري في إمساكه بمفاصل الدولة وإبقاء لبنان خاضعاً لسيطرته وحسابات محوره الإقليمي.

وأهمية انتفاضة الاستقلال انها مناسبة وطنية وشعبية وَحدّت اللبنانيين للمرة الأولى حول أهداف لبنانية وثوابت دولتية، ولو انضمّ «حزب الله» إلى هذا العرس الوطني لكانت انتهت الحرب الباردة وسقطت الحواجز النفسية وتوحّد كل الجسم اللبناني تحت سقف الدولة والدستور، وقد كشف خروج الجيش السوري الحزب نهائياً بأنه مشروع إقليمي لا علاقة له بلبنان، وكل هدفه يتراوح بين إبقاء البلد ساحة نفوذ لإيران، وبين تغيير هويته ومعالمه وتوازناته الديموغرافية من أجل تحويل السيطرة عليه إلى ثابتة ودائمة غير خاضعة لظروف وتحولات سياسية.

وبعد ان فوّت «حزب الله» على لبنان واللبنانيين ثلاث فرص تاريخية لقيام الدولة الفعلية وتثبيت الاستقرار وعودة الازدهار وإحياء النموذج اللبناني، هل سيفوِّت عليهم الفرصة الرابعة التي تطلّ برأسها من ترسيم الحدود مع إسرائيل واستخراج الغاز، خصوصا ان خطوة من هذا القبيل برعاية دولية وتنخرط فيها شركات عالمية تعني بالحد الأدنى إحياء اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل كي لا نقول سلاماً مُقنعاً او مموهاً؟
وعلى رغم ان القرار 1701 نجح بفك الاشتباك بين «حزب الله» وإسرائيل ولم يحصل «ضربة كفّ» على الحدود، فإن استخراج الغاز يشكل مصلحة مشتركة وتعاوناً بطريقة غير مباشرة من خلال الشركات التي ستنقِّب، وهذه الشركات لن تجازف ولن تغامر في حال عدم وجود تعهدات ضمنية بأنّ احتمالات الحرب سقطت إلى غير رجعة، ما يعني دخول المنطقة الحدودية بين لبنان وإسرائيل في استقرار ما بعده استقرار وغير مسبوق منذ اتفاقية الهدنة في العام 1949.

وكل ما يقوم به «حزب الله» اليوم من خلال التصعيد وإطلاق المواقف يندرج في السياق نفسه للمنطق الذي ساد بعد الانسحاب الإسرئيلي بأنه لولا الحزب لما حصل الترسيم واستخراج الغاز، وانّ سلاحه يشكّل الضمانة لضمان الثروة النفطية، ما يعني الحجج الساقطة نفسها والتبريرات غير المقنعة إيّاها، والخطاب التعبوي ذاته الذي يذكِّر بما كتبه نزار قباني يوما «السر في مأساتنا صراخُنا أضخمُ من أصواتِنا وسيفُنا.. أطولُ من قاماتِنا».

والفرصة الرابعة ستكون، ويا للأسف، ضائعة كسابقاتها، لأن طهران لن تتخلى عن لبنان كورقة من أوراق مشروعها الإقليمي التشييعي، ولأن «حزب الله» سيواصل مشروعه الذي يجسِّد علة وجوده والذي عرّف عن نفسه فيه في وثيقة الأولى والتي جاء فيها حرفياً «إننا ابناء أمة حزب الله في لبنان نعتبر انفسنا جزءا من أمة الإسلام في العالم التي أنعَم الله عليها لتكون خير أمة أُخرجت للناس، والتي نصر الله طليعتها في ايران وأسّست من جديد نواة دولة الإسلام المركزية في العالم. نحن في لبنان لسنا حزبا تنظيميا مغلقا، ولسنا إطارا سياسيا ضيقا، بل نحن أمة ترتبط مع المسلمين في كل انحاء العالم برباط عقائدي وسياسي متين هو الإسلام».