لن تكون مهمة الوسيط الاميركي عاموس هوكشتاين سهلة في ضوء رَدمه الفجوات بين لبنان واسرائيل، لأنّ ما ينتظره أصعب. فما تم التوصّل إليه دفعه الى البحث عن الضمانات لحماية ما تحقق. وهو ما ألقى مزيداً من المسؤوليات على مختلف الأطراف في موازاة المخاوف من دخول قوى أخرى على الخط تمثّل بالموقف الايراني الاخير من هوكشتاين، ما دفعَ الى إحياء البحث في الضمانات الامنية. فكيف انتقل الملف الى هذه المرحلة؟ ولماذا؟
أمام الوسيط الاميركي والأطراف التي انخرطت في المفاوضات غير المباشرة في شأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل مهلة قصيرة للبَت بكثير من القرارات الحاسمة، وهذه المهلة تمتد حتى ايلول المقبل لتحديد المواقف النهائية من مجموعة البنود التي شكلت مبادرة هوكشتاين الاخيرة لإنجاز عملية الترسيم، وكان سقفها بدء الاستخراج من حقل «كاريش» التزاماً بمضمون الاتفاقات الثلاثية الأطراف التي أبرمتها اسرائيل ومصر مع المفوضية الأوروبية ممثلة برئيستها أورسولا فون دير لاين في 16 حزيران الماضي لتزويد أوروبا ما تحتاجه من الغاز مطلع الخريف المقبل في مواجهة النقص الحاد من الغاز الروسي الذي حَجبته موسكو عن بعض دولها تزامناً مع عقوبات اميركية واوروبية قلّصت من استيراده منها.
على هذه الخلفيات، ينتظر المراقبون ما ستكون عليه نهاية الجولة الثانية للوسيط الاميركي الذي انتقل مباشرة من بيروت الى تل ابيب قاصداً إيّاها مباشرة على وَقع مجموعة من الروايات والسيناريوهات الايجابية التي تحدثت عن تفاهم مبدئي على عملية الترسيم كما أرادها هوكشتاين بتقاسم المكامن النفطية قياساً على حجم الاحواض المكتشفة، والتي أسقطت أهمية الخطوط المرسومة فوق الماء من دون تَجاهل اللجوء الى تحديد إحداثياتها وفقاً لما يقول به قانون البحار، ولو جاءت بخط متعرّج كما اقترحه بنفسه على الجانبين تِبعاً لنظريته التي تقول انّ الثروة الحقيقية ليست على سطح البحر إنما هي في أعماقه.
وانطلاقاً من هذه المفاهيم التي نشرت أخيراً أجواء ايجابية في بعض الأوساط النفطية والسياسية ومعها الديبلوماسية التي تساعد على إنجاز التفاهمات بين لبنان واسرائيل لتوفير ما تحتاجه بلادهم من المشتقات النفطية وإحياء الاقتصاد اللبناني الذي يعيش تجربة مالية ونقدية قاسية وغير مسبوقة عندما يتحوّل دولة منتجة للمشتقات النفطية، فإنّ التسريبات غير الرسمية بَدّدت هذه الأجواء وخصوصاً عندما بدأت العقبات تطلّ بقرنها من الأوساط الإسرائيلية والتي تحدثت عن تغيير استراتيجي في أهدافها بحيث انها تنوي تأخير موعد استخراج النفط والغاز من حقل كاريش الى موعد لاحق، وهو ما سيؤدي حتماً الى تمديد مفاوضات الترسيم مع لبنان ان لم تعد مرتبطة بهذا الموعد.
والى ان تَثبُت هذه الرواية من مصادر اميركية او اسرائيلية رسمية على علاقة مباشرة بسير المفاوضات، فإنّ أجواء من البلبلة سادت الاوساط اللبنانية التي تستشعِر محاولة اسرائيلية جديدة للمماطلة في الرد على المقترحات اللبنانية بعدما كانت تستعجل الوسيط الاميركي البَت بها قبل نهاية آب الجاري بغية اطلاق برامج الإنتاج وخططه في أيلول المقبل. ولذلك فقد توسّعت المراجع المعنية في البحث عن الاهداف الاسرائيلية من هذا النهج الجديد ان كان صحيحاً.
وعليه، فقد طرحت للوهلة الاولى مجموعة من الاسئلة في محاولة لفهم الموقف الاسرائيلي الجديد بخلفياته وأهدافه. وتركزت اولى الاسئلة عما إن كان هذا القرار ـ إن ثَبتَت صحته – يستهدف العرض الجديد للمفاوض اللبناني، او الوسيط والراعي الاميركي، او الدول الأوروبية التي تنتظر زيادة وارداتها من الغاز الاسرائيلي والمصري لسد حاجاتها بديلاً من الغاز الروسي. عدا عن النية في ابتزاز كل هذه الاطراف معاً على ابواب الانتخابات النيابية الاسرائيلية المقررة في الخريف المقبل بعدما دخلت عملية الترسيم بنداً خاصاً على البرامج الانتخابية واتهام الحكومة بالتفريط بحقوق اسرائيلية مزعومة يهدّدها الاتفاق مع الجانب اللبناني الذي تجاوز الخطوط الحمر في ما تَنازَل عنه تلبية للوساطة القائمة وسعياً الى استثمار هذه الثروات والافادة منها بعد طول انتظار؟
وقبل الاجابة عن هذه الاسئلة، ربطت بعض المراجع التسريبات الاسرائيلية بما استجدّ من مواقف لمجرد التركيز على طلب ضمانات امنية تجاه اي تصرف امني وعسكري محتمل من جانب «حزب الله» بعد توقيع الاتفاق ما لم تتوافَر لها الضمانات الكافية للبدء بأعمال الاستخراج في اجواء آمنة ومضمونة. وهو امر تسبّبت به المواقف الايرانية التي واكبت تهديدات الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله باستخدام صواريخ بر ـ بحر يمكن ان تطاوِل المنشآت النفطية الاسرائيلية. وزاد في الطين بلة حديث قائد الحرس الثوري الإيراني قبل فترة قصيرة عن وجود مئة الف صاروخ لدى الحزب اذا تجرأت اسرائيل على المس بالمصالح الايرانية من دون تحديد اماكن وجودها في سوريا او ايران وربما في لبنان، وهو موقف عسكري تلى موقفاً ديبلوماسياً ترجَمه الهجوم الذي شنّه أحد الديبلوماسيين الإيرانيين الكبار قبل ايام مُستهدفاً الوسيط الاميركي ومتهماً إيّاه بأنه يعمل لمصلحة اسرائيل ويتجاهل مطالب لبنان وحقوقه.
وما بين هذه المعطيات على تَعدّد وجوهها ونتائجها، اكد مرجع لبناني يتابع المفاوضات ان الرد الاسرائيلي في حال ثبوته سيكون ردا او رفضا مُبطّنا للضمانات التي طلبها لبنان من هوكشتاين لجهة الربط بين الترسيم والتنقيب على خلفية وقف الضغوط التي تعرضت لها الشركات الدولية التي لم تنفّذ تعهداتها ببدء التنقيب في البلوكات الجنوبية بعد توقفها بطريقة مُلتبسة في البلوك الرقم 4 الواقع في قلب البلوكات اللبنانية، وهو أمر مهم بالنسبة الى لبنان ليسير في الاتفاق الذي تم التوصّل اليه من ضمن المهل التي تحدث عنها مع والوسيط الاميركي بمعزل عن تصرفات «حزب الله» بدءاً بإطلاق مسيراته في مطلع تموز الماضي وصولاً الى التهديد في اليوم الأخير منه بالصواريخ الدقيقة التي يمكن ان تطاول المنصات النفطية. وانّ تَبرّؤ لبنان من هذه التصرفات لم ولن يؤثر على موقفه الرسمي الموحّد من النقاط المطروحة على طاولة المفاوضات غير المباشرة. ولذلك فإنّ الحديث عن تصرفات «حزب الله» لن يقدّم ولن يؤخر بالنسبة الى الموقف اللبناني، فهو قال كلمته ولامسَ الخطوط الحمر بما قدّمه لينجح الوسيط الاميركي في مهمته، ونقطة عالسطر.
وبناء على ما تقدم يخشى المراقبون ان تكون اسرائيل تبحث عن اسباب يمكن ان تنال من وحدة موقف لبنان وصلابته، فالضمانات التي طلبها من هوكشتاين قد تكون مطلوبة من إدارته قبل اسرائيل، وانّ إصرارها على إدخال العنصر الإيراني و«حزب الله» في قلب المفاوضات سيكون محاولة فاشلة على رغم من القلق الذي يمكن ان تتسبّب به في لبنان، خصوصاً اذا هدفت الى اثارة القلاقل في الداخل واحداث شرخ في لبنان نتيجة الانقسام الحاد تجاه تصرفات الحزب، وهو ما يوحي بوجود لعبة اكبر لن يكون هناك حل بشأنها في لبنان وربما بات الحل في فيينا او بغداد حيث تُخاض مواجهات صعبة يرزح لبنان تحتها.