إيجاد حلّ تحت الماء كلام غير دقيق.. ولتوسيع دائرة التشاور والخبراء ونشر الدراسة البريطانيّة
يريد لبنان من ملف ترسيم الحدود البحرية التوصّل الى اتفاق بحري بينه وبين العدو الإسرائيلي “أكل العنب وليس قتل الناطور”، بهدف تحسين الوضع الإقتصادي والمالي والمعيشي غير المسبوق الذي وصلت إليه البلاد، غير أنّ الوصول الى صياغة هذا الإتفاق والتوقيع عليه دونه عقبات داخلية عدّة تتداخل أيضاً مع التسويات الإقليمية والدولية. وبعد حملة التخوين من قبل “قوى الثورة والتغيير”، وفي مقدّمها الدكتور عصام خليفة والعميد المتقاعد جورج نادر، والتي عقدت أخيراً مؤتمراً صحافياً أكّدت فيه على التمسّك بالخط 29 ورفض الخط 23 و”خط هوف”، معتبرة “أنّ المسؤولين يرتكبون خيانة عظمى بالتخلّي عن 1430 كلم2″، ولهذا قامت بتكليف لجنة لإعداد دعوى جزائية ضدّهم. وما أعقب هذا التحرّك من ردّ من المديرية العامّة لرئاسة الجمهورية عليه أوضحت فيه أنّ المعلومات عن التفاوض حول ترسيم حدود لبنان البحرية الجنوبية هي “من أسرار الدفاع الوطني التي يمنع القانون الإفصاح عنها راهناً”، كما “أنّ الأعمال المتصلة بالمفاوضات غير المباشرة تُحاط بالسريّة لحفظ الأمن القومي لئلا ينفذ العدو إليها ويستخدمها لتقوية موقف بوجه لبنان”…
بعد كلّ هذا يجري التساؤل: هل تصبّ مثل هذه الخلافات الداخلية في مصلحة لبنان المُراقب من قبل الأطراف المعنية بالإتفاق؟ وهل بات الطريق ممهّداً فعلاً لتوقيع الإتفاق البحري بين لبنان والعدو الإسرائيلي بوساطة الولايات المتحدة الأميركية، بعد الرسالة الأخيرة منها ومفادها بأنّ “منظّمة حزب الله أعطت موافقتها للحكومة اللبنانية للمضي قُدماً بهذا الإتفاق”، كما جاء في الرسالة ، علماً بأنّ لا وجود لـ “حقل قانا” على “الخريطة الإسرائيلية”، ما يعني بأنّهم لا يريدون إعطاءه للبنان ؟!
يؤكّد السفير الدكتور بسّام النعماني المتابع لقضايا ترسيم الحدود البحريّة والبريّة، بأنّ المفاوضات يجب أن تكون شفّافة وفوق الطاولة، ولكن عندها لا بدّ من إطلاع الشعب على تفاصيل الإتفاق وعلى ما يجنيه لبنان منه، وما قد يخسره لو لم يوقّع عليه. ومن ثمّ يأتي الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين مُجدّداً الى لبنان، فيُقدّم عرضاً، تناقشه الحكومة، ويتمّ الإتفاق على الردّ، ومن ثمّ تعقد لجنة الشؤون الخارجية جلسة مع وزير الخارجية والمغتربين عبدالله بوحبيب يُعرض خلالها اقتراح هوكشتاين وردّ الحكومة المزمع، فيُناقشون الأمر ويتفقون على خطّة موحّدة. بعد ذلك، يقوم وزير الخارجية بإبلاغ هوكشتاين بردّ لبنان الرسمي، ثمّ تنتظر الحكومة اللبنانية ردّ الأميركيين، وهكذا تجري الأمور بطريقة سلسة وشفّافة، ويكون الشعب مطّلعاً على كلّ ما يجري، فلا يحتاج عندها الى التحليل والتأويل بل تتمّ مشاركته في القرار، وهذا كلّه ضروري ومطلوب لأنّنا نعيش في عصر التواصل الفوري،اما اللجوء الى الاتصالات السرية او الجانبية او من تحت الطاولة فلن يخدم اي طرف داخلي، سيما وأنّنا بتنا نعيش في عصر الإتصالات الآلية والفورية، وكلّ ما يحدّث يجري تسريبه فوراً.
وشدّد النعماني على ضرورة أن يُصار الى نشر الدراسة البريطانية الصادرة عن المكتب الهيدروغرافي البريطاني، لأنّ عدم نشرها خطأ يرتكبه المسؤولون كونها تؤكّد على الخط 29 كحدود لبنان البحريّة، ويريد المسؤولون حصر المفاوضات بأيديهم، لا أن يُحافظوا على سريّة المداولات، وما داموا يحصرونها بين أيدي مساعديهم ومستشاريهم فسيرتكبون الخطأ تلو الآخر، لأنّهم ومساعدوهم ليست لديهم الخبرة بما فيها الكفاية لمقاربة مسألة الحدود المعقّدة. ولذلك يجب توسيع دائرة التشاور والإستعانة بالمزيد من الخبراء وإطلاع الشعب أولاً بأوّل على مسار المفاوضات التي لن تُحسم خلال أشهر، كما يتوهّم البعض.
أمّا عن الإتفاق ما تحت الماء الذي يجري الحديث عنه لتقاسم موارد الحقول وليس المياه، على ما قال النائب جبران باسيل، إذ لا أهمية لهذه الكيلومترات من الماء إذا كانت خالية من الآبار والحقول النفطية، وعن إمكانية الذهاب الى حلّ من تحت الماء من دون ترسيم لأي خط، أجاب السفير النعماني بأنّه لا أهمية لمثل هذا الكلام، فهو غير دقيق. ففي البرّ تتنازع الدول على الأمتار، فيما البحر خالٍ الآن. ولكن لا ندري ما قد يحمله المستقبل من تطوّرات تكنولوجية غير مرئية وغير متوقّعة، فيُصبح البحر عامراً بالمواخير الذاهبة والقادمة، أمّا أنّه يجب الموازنة بين الترسيم فوق البحر والنفط والغاز في العمق فكلام منطقي. ولكن كيف ستتمّ ترجمته على أرض الواقع، خصوصاً وأنّ العلماء والخبراء بدأوا يتحدّثون عن آبار نفط وغاز متداخلة ومتشعّبة بشكل خيوط عنكبوتيّة، وأنّه قد يصعب الفصل تكنولوجياً بين حقل وآخر؟ إلّا إذا كانت التشقّقات الصخرية في أرضية البحر تضع حواجز فاصلة بين بئر وآخر، كذلك لا بدّ من التوافق لاحقاً على طريق الحرير، وخطوط أنابيب الغاز الممتدة من سيبيريا الى أوروبا، أو من الخليج و”إسرائيل” الى أوروبا لتصدير كميّات الغاز المكتشفة في الآبار النفطية وجني الموارد منها.
وهل ستبقى الظروف ممهدّة للإتفاق بعد كلام السيّد نصرالله الأخير وطائرة “حسّان” والتحليق الحربي “الإسرائيلي” الأخير فوق الحارة والعاصمة ردّاً على “حسّان”، لفتت الأوساط عينها بأنّ الأمر يتعلّق بما سينتج من الإتفاق النووي الأميركي- الإيراني المنتظر توقيعه أو العودة إليه قريباً جدّاً، ولا بدّ من أن تتجلّى الصورة بشكل أوضح، فيما يتعلّق بترسيم الحدود البحرية للبنان بعد هذا الإتفاق المرتقب.
أمّا فيما يتعلّق بتخوين المسؤولين إذا لم يعتمدوا الخط 29 كون الوفد العسكري التقني قد فاوض عليه على طاولة الناقورة خلال الجولات الخمس من المفاوضات غير المباشرة بين لبنان والعدوالإسرائيلي، برعاية أممية وبحضور الوسيط الأميركي، ثمّ بدّلت موقفها بالعودة الى الخط 23، فأوضح أنّ “الخيانة هي نقيض الأمانة. وهي نقض العهد بالسرّ والإستبداد بما يؤتمن عليه الإنسان من الأموال والأعراض والحرم. فإذا حصل اتفاق بالسرّ بين مسؤولين لبنانيين و”إسرائيليين” حول تقاسم الثروة النفطية، ولو كان عن طريق طرف ثالث الذي هو اليوم الولايات المتحدة بطبيعة الحال، كونها تلعب دور الوساطة في المفاوضات غير المباشرة بين الجانبين، وبقي هذا الإتفاق غير مُعلن، فيُمكن عندها اعتباره “خيانة عُظمى”. علماً بأنّ الخيانة العظمى هي جريمة يقوم بها المواطن ضدّ دولته، أمّا إذا خانت الدولة مواطنيها، فهل يُعتبر ذلك خيانة عظمى؟ اللهم إلّا إذا اعتبرنا أنّه بموجب النظام البرلماني فإنّ الحكم هو للشعب. فإذا خان رجال الدولة شعبهم وأمانتهم فقد ارتكبوا هم “الخيانة العظمى”.