إضطر أكثر من 1.5 مليار إنسان حول العالم إلى المكوث في منازلهم. فجأة، ومن دون إنذارات مسبقة، تبدّل نمط الحياة، تغيّر سُلم الأولويات، وأُلزم الناس على التأقلم مع واقع جديد وسلوكيات طارئة. انحصرت اهتمامات غالبيتهم بالمبادئ الثلاثة الأساسية: الأكل والشرب، النوم والجنس. ووسط كل هذه التحوّلات، استولت مهنة واحدة على حيّز الاهتمام. ففيما كانت قبل هذا الوقت مهنة ثانوية، عادية، لا بل هامشية ودونية بالنسبة لعدد غير قليل من الناس، باتت في الزمن الكوروني خشبة خلاص، وأضحى كل من يمارسها “سوبرمان” عصره.
ليس لهؤلاء لباس موحد، لكننا نستدل عليهم ببساطة. لا بزّات رسمية ولا ربطات عنق، بل مجرد حذاء رياضي وجينز وسترة. جميعهم ملزمون ارتداء مستلزمات الوقاية خاصتهم: خوذة للرأس، قفّازات في اليدين، ورداء من نايلون للاحتماء من التبلل في الطقس الماطر. جميعهم أيضاً ملزمون التقيد بإرشادات السلامة أثناء القيادة، لكن عبثاً يُنصتون. غالبيتهم يقودون دراجاتهم النارية كالمشاركين في سباق عالمي. يتحايلون على السيارات، ويمرون في ما بينها كالفارين من الشرطة. يزيدون السرعة من دون تفكير أو خوف مبتهجين كمن يتحدى الوقت. هل عرفتم عمن أتكلم؟ أجل، إنهم شباب “الدليفري”.
هؤلاء تحوّلوا من رجال عاديين إلى أبطال زمن الكورونا. لم يختبئوا في منازلهم، بل واصلوا زيارة منازلنا يومياً، وربما لأكثر من مرة في اليوم، حاملين بين أيديهم ما اشتهينا من مُتع للتسلية وقضاء الوقت. لم يختبئوا، بل استمروا في تلبية احتياجاتنا وممارسة عملهم من دون خوف رغم معرفتهم باحتمال محاصرتهم بالفيروس، في المصعد مثلاً، أو عند لمس النقود، أو حتى عند طرق الجرس. بالنسبة اليهم، إنه “زمن الواجب”. فبحسب مصطفى، وهو شاب مصري يعيش في لبنان منذ أكثر من 10 سنوات ويعمل في هذه المهنة منذ حينه، فإن “شباب الدليفري باتوا كالمسعفين، فلولا وجودنا لكان حُرم الكثير من الناس من ملذات كثيرة تُخفف عنهم شقاء الحجر في المنازل”، مشيراً إلى أن “الناس وجدت فينا خشبة خلاصها، خصوصاً في الأسابيع الأولى لإعلان حالة التعبئة العامة، فقد امتنع عدد كبير من الحضور إلى السوبرماركت حتى، كانوا يتصلون ويطلبون إيصال أغراضهم دليفري”.
ووفق مصطفى فإن “الضغط في العمل كان شديداً جداً في الأسابيع الأولى، لدرجة أننا نكاد لا نقفل المحل سوى لساعات معدودة ليلاً”، مؤكداً أن “هذا الضغط تراجع شيئاً فشيئاً، حتى عادت الأمور إلى طبيعتها تقربياً، فالناس تنفست الصعداء إثر تراجع أعداد الإصابات”.
منذ قدومه إلى لبنان سكن مصطفى في الأشرفية. أحب المنطقة وأهلها: “أنا أعرفها زاوية وزاية، حتى أنني أتحدى أي لبناني سرد تفاصيل عن حارات وزواريب الأشرفية كتلك التي أعرفها”. من لا يعرف مصطفى لا يستطيع كشف أصوله المصرية، فهو يُتقن اللهجة اللبنانية ويجيد التحدث بها، فهو على حد قوله “من أهل البيت”. لكن رغم ذلك، لم ينفد الشاب الثلاثيني من الوصمة والتمييز اللذين ضاعفهما فيروس كورونا. ففي إحدى المرات غادر مصطفى منزل إحدى السيدات من دون أن يعطيها أغراضها، قائلاً: “ما إن فتحت الباب بدأت بالصراخ: “خليك برا خليك برا / ما تقرب ما تقرب”. كان الهلع ظاهراً عليها وكأنها لمحت صرصاراً! تفاجأت من رد فعلها، فتسمرت في مكاني وأنا أحمل الكثير من الأكياس ثقيلة الوزن بين يدي، لكنها عادت تصرخ: “حطن على الأرض وأنا شوي وبكبلك المصاري”. ما إن سمعت هذه العبارة حتى استدرت وهبطت الدرج ولم أعطها الأغراض، بل صرخت: “أنا لا أقبل بهذه المعاملة، فإن كنت قرفانة، إذهبي بنفسك واشتري حاجتك”.
ما حصل مع مصطفى ليس يتيماً. له صولات وجولات مع بيوت يعاني أصحابها من “رهاب الأجانب”، على حد قوله. لكن ما يعزيه هو وقوف صاحب السوبرماكت الذي يعمل فيها في الأشرفية إلى جانبه دوماً. يقول: “ثقته بي تعني لي الكثير، فهو حريص على مشاعري ويرفض أن يتعامل أحد معي أو مع زملائي بقلة احترام. فلا أحد يحق له ذلك أساساً. هل هكذا تكافئنا الناس ونحن نخاطر بأرواحنا بالتنقل يومياً من منزل إلى آخر؟”. يضحك ثم يضيف: “أتعرفين لم أعد أتأثر حقيقة من ذلك، فمقابل تصرف عنصري واحد تجاهي هناك آلاف البيوت التي أدخلها معززاً ويغمرني أصحابها بفائض من العطف والحب، لا بل يعتبرونني أيضاً من أهل البيت، فأنا، كما قلت لك، قديم في البلد والمصلحة”.
بالإضافة إلى ما يضطر هؤلاء لارتدائه أثناء قيادة دراجاتهم النارية، باتوا في زمن الكورونا يعتمدون إجراءات إضافية: فور نزولهم من على دراجاتهم يعقمون أيديهم ثم يرتدون القفّازات الطبية. يضعون الكمّامات على أنوفهم ثم يحملون الأغراض. فور وصولهم يطرقون الباب ويبقون على بعد مترين على الأقل من صاحب المنزل. يعطونه الأغراض عن بعد ثم يتقاضون ثمنها. عليهم تجنب إطالة الحديث إلى الناس. فور مغادرتهم يعقمون النقود، ثم يضعونها في جيوبهم، ثم يخلعون القفّازات ويطهرون أيديهم مجدداً.
في البداية كان تكرار كل هذه الإجراءات أكثر من مرة في اليوم كالقصاص بالنسبة لمصطفى، إلا أنه اعتاد الأمر في نهاية المطاف. فوفقه: “نحن لا يمكن أن نتحمل اي مسؤولية إن تعرض أحد للخطر بسببنا، لذلك نتخذ كل الإجراءات المطلوبة، وقبل مغادرتنا نطلب من أصحاب البيوت تعقيم كل الأغراض قبل استخدامها تداركاً لأي سوء”.
قبل ظهور هذا الفيروس وانقلاب الكرة الأرضية رأساً على عقب، كان مصطفى يُخطط لزيارة أهله في مصر. تغيّرت خططه كحال جميع الناس، “كنت أحضر نفسي للزيارة فقط اشتقت فعلاً لأهلي هناك في طنطة، لكن الأحوال كلها تبدلت فجأة. ورغم كل ما يعانيه لبنان الآن من ضائقة اقتصادية ومعيشية لا أستطيع تركه أو مغادرته نهائياً. اعتدت على الحياة هنا. إعتدت على النمط وعلى الناس”. يصمت برهة ثم يضيف ممازحاً: “حتى أنني أفكر في أن أتزوج لبنانية”.
مصطفى كغيره من أصحاب الجنسيات الأجنبية، يرزحون تحت خسارة مادية كبيرة بسبب عدم قدرة أصحاب المحلات التي يعملون فيها على تسديد رواتبهم بالدولار الأميركي. ويوضح مصطفى أننا “كنا نحصل على رواتبنا بالدولار قبل الأزمة، لكن الآن لا يوجد دولار بمتناول أيدي الناس، لذلك نضطر للحصول عليها بالليرة اللبنانية”، مشيراً إلى أن “صاحب العمل جعل الراتب أعلى بقليل عما كان عليه سابقاً ليساعدني على تحمل تكلفة انهيار الليرة وغلاء الأسعار الفاحش، ولكنني كسواي من الأجانب أقع تحت خسارة كبيرة، فالليرة اللبنانية لا أستطيع أن أدخر منها لاستبدالها بالعملة المصرية في ما بعد”.
حال مصطفى هي نفسها حال ربيع، الذي يعمل في “سناك” في محلة كورنيش المزرعة، وهو شاب سوري يعيش في لبنان منذ زمن طويل. لا يجد ربيع جدوى من العودة إلى بلده، لكنه في الوقت نفسه يعيش القلق نفسه الذي يعيشه اللبنانيون إزاء تفاقم الوضع الاقتصادي سوءاً. ويقول: “سوريا لا تزال ترزح تحت وطأة الحرب العسكرية، لكن لبنان يخضع لحرب اقتصادية ستدمر كل شيء”، مضيفاً: “اعتدت منذ سنواتي الاولى هنا أن أعيش وحدي، لذا فأنا أستأجر شقة سكنية في المنطقة وأدفع كل النفقات المتوجبة عليّ، لكن منذ بدأت الأمور في لبنان تسوء والعمل يتراجع قرر صاحب المطعم أن يحسم من رواتبنا نصفها تقربياً. ومع ارتفاع أسعار الدولار فقدت رواتبنا قيمتها بشكل كبير”. يصمت الشاب العشريني ثم يضيف: “لا أعتقد أن كورونا هي الخطر الحقيقي في لبنان، فالجوع أخطر منها وأشد فتكاً”.
حال الآخرين لا تختلف كثيراً عن حالهما. يبدو أن شباب “الدلفيري” أيقنوا حتماً واقعهم. فوفق ربيع: “واجهنا كورونا بالكثير من الحب لعملنا وواجبنا تجاه الناس، فلم نخف ارتياد البيوت والعمل لساعات طويلة أحياناً، ولكن كيف سنواجه الجوع والضائقة المادية وغالبية اللبنانيين يئنّون؟”. يترك ربيع سؤاله معلقاً في آذان الحاضرين حوله من رفاق، من دون أن ينبس أي منهم ولو بطيف جواب.
“الدليفري” حول العالم
وفي ظل تعذر ارتياد المطاعم والمقاهي ومراكز التسوق، يلجأ كثيرون إلى خدمات التوصيل، وسط تساؤلات حول ما إذا كان “الدليفري” أكثر أماناً ولا يؤدي بدوره إلى انتقال عدوى كورونا. وبحسب موقع “إن بي سي”، فإن عمال التوصيل في الولايات المتحدة يبدون مخاوف كبرى من إصابتهم بالفيروس، نظراً إلى تنقلهم صوب عدد كبير من المنازل والزبائن في كل يوم. ونقل الموقع عن عمال توصيل، من دون ذكر أسمائهم، خشية أن يفقدوا وظائفهم إذا تحدثوا عن المشاكل بشكل علني، أن شركات كثيرة لم تزود عمال التوصيل بسائل تعقيم اليدين، واكتفت بحثهم على غسل اليدين بالماء والصابون باستمرار.
هذا القلق لا يقتصر على عمال التوصيل لوحدهم، لأن الزبائن يخشون بدورهم أن ينتقل إليهم الفيروس في حال استلموا طلبيات من الخارج. ويوصي خبراء، بتجنب الملامسة قدر الإمكان، عند استلام طلبيات “الدليفري”، ولأجل مراعاة هذه الإرشادات، ينصحُ بالدفع الإلكتروني، وتفادي السداد نقداً، إلا في حال كان ذلك ضرورياً. وأعلنت شركات توصيل، أخيراً، عن خدمة توصيل من دون تفاعل بين العامل والزبون “Contact free”، فيما ألزمت بعض البنايات من يطلبون وجبات من الخارج، أن يستلموها في مدخل البناية، حتى لا يصل العامل القادم من الخارج، حتى باب الشقة. وبعد الاستلام، يوصي الخبراء بالتخلص من الأكياس التي جاء فيها الطعام، ثم غسل اليدين وتعقيمها، نظراً لإمكانية انتقال الفيروس عبر الأسطح التي لامسها سائق التوصيل أثناء جلب الطعام.
وحظي عمال التوصيل بإشادة واسعة، أخيرا، وسط دعوات إلى إكرامهم بـ”بقشيش” سخي نظراً للجهد الذي يقومون به في إمداد الناس بما يشترون، رغم الظروف الصحية والاحتمال المرتفع لإصابتهم بالمرض.
«عدة الشغل»
يعمل شباب «الدليفري» بغالبيتهم في لبنان على الدراجات النارية. يتنقلون بواسطة دراجة نارية من نوع part motorcycle، صنع الصين. يعتبر هذا النوع من الدراجات النارية «وفّيراً»، إذ يمكن ان «تفوّل» خزّان الوقود فيها حتى التُخمة بعشرة آلاف ليرة فقط. تنشأ بينهم وبين هذا الموتو «علاقة من نوع خاص»، فيعتنون به ويحمونه ليحميهم بدوره ويحافظ على ثباتهم في العمل، فأي ضرر يلحق بالدراجة النارية يتحمل مسؤوليتها من كان يقودها، أي شاب «الدلفيري».
وبالنسبة لهؤلاء، ان افضل ما جاءت به جائحة الكورونا هو فراغ الطرقات من زحمة السيارات والشاحنات، فبات هؤلاء ينطلقون برحلاتهم في طرقات فارغة، وكأنها ملكهم وحدهم.
البقشيش
باتت غالبية شباب «الدليفري» تعوّل على البقشيش في عملها وليس على الرواتب الزهيدة التي تحصل عليها. وفي زمن كورونا تضاعف البقشيش الذي يعطيه الناس لهؤلاء، ولا سيما في منازل العائلات اصحاب الثراء، لانهم باتوا أملهم الوحيد في تأمين مختلف الاحتياجات التي يرغبون فيها وهم قابعون في منازلهم يطلبون و»يستحْلون». وقد شهدت بعض أحياء الضاحية الجنوبية في بيروت نشاطاً لدى الداخلين على خط «الدليفري» بشكل شبه تطوعي، وكلفة أي طلبية بالكاد توازي بقشيشاً: 2000 ليرة… هذا قبل أن يقفز الدولار قفزاته الجنونية.