في مثل هذا اليوم من العام 2005، عبر اللبنانيون بأطيافهم وتلاوينهم إلى مرحلة جديدة في حياتهم، مرحلة امتدت من تاريخ الاغتيال الكبير، عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط من العام نفسه، إلى يوم انتصار الإرادة الشعبية على الظلم والقهر والاستبداد الذي كان بدأ مرحلة جديدة من إجرامه من خلال الاغتيالات، انتصار على جلّاد أخافته حشود الملايين التي توحّدت وتجمّعت كالطوفان تحت راية خفّاقة سارت قبلهم إلى يوم الالتقاء واللقاء في «وسط» العاصمة، بعد سنوات من الغربة القسريّة.
الرابع عشر من آذار، يوم شهد تحوّلات ملموسة في البلد. فهذا التاريخ الذي حُفر في ذاكرة اللبنانيين، شهد وللمرّة الأولى في تاريخ البلد، توافقاً حول نظرة واحدة تتعلّق بمستقبل لبنان الوطن الذي حسم أبناؤه أمرهم الوطني وخياراتهم السياسية، ليلتفّوا حول علم واحد وسط إصرار منهم على العبور إلى الدولة مهما غلت التضحيات وارتفعت أصوات التهديدات، فكانت ولادة قوى «الرابع عشر من آذار» تحت مجموعة عناوين أبرزها: حماية لبنان وبناء الدولة، وتنظيم العلاقات الداخلية والتأكيد على الشراكة والمناصفة بالاستناد إلى اتفاق الطائف.
المؤكد، أن يوم 14 آذار لم يأت من لحظة الإغتيال في 14 شباط فقط، بل هو، إلى ذلك، إرتبط بمرحلة طويلة من النضال اللبناني بعد نهاية الحرب الأهلية من أجل إعادة بناء الدولة وإعمار الوطن، في ظل ظروف صعبة كان يمر فيها لبنان والمنطقة. كان هناك شبه إجماع وطني على ضرورة التخلّص من الإحتلال السوري خصوصاً وأن البلد كان دخل في عصر الإلتقاء بين أبنائه والإتفاق على ركيزة أساسية عنوانها «العبور إلى الدولة»، هذا العبور الذي فتح الباب امام النقاش الداخلي من اجل النهوض بمشروع الدولة القادرة على حماية أبنائها تحت سقف سياسي يلتزم فيه الجميع، يبدأ بإنتشار الجيش اللبناني في كل الأراضي يليه تطبيق إتفاق الطائف في بنده المتعلّق بالانسحاب السوري بعد دحر الاحتلال الإسرائيلي.
ومن فضائل يوم «14 آذار» 2005 ونتائجه التي ما زالت تتفاعل إيجاباً حتى اليوم في بُعديها السياسي والإجتماعي، أنه أسهم إلى حد بعيد في فتح صفحة جديدة من العلاقات بين اللبنانيين بعدما نزعوا حواجز الخوف وأزالوا السواتر المذهبية والطائفية بين بعضهم البعض، وفي الإنفتاح العقلاني وتقبّل الآخر على الرغم من الإختلافات في العديد من وجهات النظر. كما يُسجّل لهذا التاريخ، أنه جعل جزءاً كبيراً من الشعب اللبناني يستعيد بوصلة علاقته ببلده بعدما كانت جُرفت هذه العلاقات بالكامل في فترات سابقة، باتجاه العروبة على حساب الوطن. وكذلك الأمر بالنسبة إلى البعض الآخر بحيث نجحت «14 آذار» بإعادة ثقتهم بالإنتماء العروبي والإعتراف بدور الدول العربية وجامعتها. وكل هذا التباعد أو الفراق الذي كان تسيّد الساحة الداخلية والعلاقات بين أبناء الوطن الواحد، كان مردّه إلى لعبة الدول والمؤامرات التي كانت تُحاك ضد لبنان وشعبه.
اليوم وعلى الرغم من الجمود الذي يلف قوى الرابع عشر من آذار في العديد من المحطات، إلّا ان الروح التي قامت على أساسها والعناوين التي حملتها منذ لحظة إنطلاقها بالإضافة إلى الثوابت، ما زالت على حالها، لا بل هي في نتاج مُستمر على أساسها تتبلور الأفكار على الرغم من الخسارات المتلاحقة التي تعرّضت لها خلال السنوات الماضية والتي تمثّلت بإغتيال العديد من قادتها، بدءاً من محاولة إغتيال الوزير مروان حمادة، وصولاً إلى إغتيال الوزير محمد شطح. ورغم هذا الوجع، بقيت المبادئ على حالها وبقي معها الإيمان بالوطن الواحد والنهائي لجميع أبنائه، والتشديد على العلاقات الأخوية مع الدول العربية والنأي بلبنان عن كل المشاكل والخلافات التي تُحيط به والإعتراف بسيادة البلد وحصر السلاح بيد الدولة اللبنانية فقط، والتأكيد على أن إسرائيل هي العدو الأبرز والأوحد لكل اللبنانيين.
14 آذار قبل العام 2005 كانت جنيناً يتكون، لكن بعد انفجار «السان جورج» تحولت إلى قبضة قوية تصارع بسلم من أجل بقاء الدولة وبقاء الوطن كما رُسم في الدستور. استشهد الكثيرون لأجل لبنان، وخسر اللبنانيون في مفاصل كثيرة، ولكنهم بالتأكيد لم يخسروا معركة بناء وطنهم، فيما يظهر أنهم على المدى الطويل سيبنون دولتهم على الأسس نفسها التي قامت عليها تلك الحركة اللاإرادية والتي سار فيها المواطنون قبل الزعماء. أمّا بعد تاريخ 14 آذار، فقد تحولت السياسة الداخلية إلى عمل يومي دؤوب، من مطالبة بالسيادة والحرية إلى مطالبة بتحسين الأوضاع الاقتصادية ودفاعاً عن الدستور في وقت كان هم البعض الآخر، التمديد لهذا الموقع وتحصين ذاك الموقع، لكن في نهاية المطاف، يصحّ القول أن المنتصر الأبرز من تلك الحقبة، هو الوطن بشكل أساسي، ودماء الشُهداء الذين ما زالت دماؤهم تُنير شعلة «14 آذار» حتّى اليوم.