لعلّ أكثر عبارة تخلّلتها كلمات النوّاب المتحدّثين في جلسات إقرار الموازنة العامّة في المجلس النيابي هي «محاربة الفساد» نظراً لخلو الموازنة المناقَشة منها رغم تشديد الكتل النيابية والأحزاب كافة على ضرورة معالجة هذا الأمر لسدّ العجز وإيفاء الديون المتراكمة، ولكي يتمكّن لبنان بالتالي من النهوض مجدّداً على جميع الصعد. وإذ استحدثت الحكومة الماضية وزارة الدولة لشؤون مكافحة الفساد، وأقرّت لجنة المال والموازنة قانون مكافحة الفساد في القطاع العام، ألغت الحكومة الحالية هذه الوزارة نظراً لعدم قدرتها على فتح أي ملف يشوبه الفساد كونه يرتبط مباشرة بأسماء كبار السياسيين والمسؤولين في البلد، رغم علمها بأنّ الفساد يُشكّل عائقاً أمام تقدّم الوطن ونهوضه الإقتصادي إذ أنّه يُسبّب الفقر وينتهك حقوق الإنسان ويقوّض الديموقراطية ويُلحق الضرر في البيئة والصحّة العامة، ويُعتبر إحدى أدوات الجريمة المنظّمة، كما أنّ مكافحة الفساد ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالإصلاحات. فما الذي يُمكن فعله من أجل محاربة الفساد فعلاً سيما وأنّ المجتمع الدولي ينتظر أن يقوم لبنان بذلك كونه يستشري في القطاعات كافة، ويمنع تحقيق الإصلاحات المطلوبة لحصوله على القروض والمساعدات من الدول المانحة؟
مصادر سياسية مواكبة أشارت الى أنّ أسباب الفساد في لبنان متنوّعة وتتخذ أشكالاً مختلفة، وبالإمكان تقسيمها الى أسباب سياسية وإدارية وإجتماعية وأخرى تتعلّق بالنقص في التشريعات الضرورية لمحاربة الفساد. علماً أنّه مع إقرار القانون في العام الماضي، اكتملت المنظومة التشريعية لمكافحة الفساد في القطاع العام، إذ أصبحت نافذة من حيث الآلية سيما وأنّها أُنيطت بالهيئة الوطنية الصلاحيات كافة لتحريك الضابطة العدلية والقضاء والقيام بالتحقيقات والإجراءات الإحترازية من رفع السريّة المصرفية والحصانة عن الرؤساء والوزراء والنوّاب والضبّاط والإداريين… كذلك أطلقت وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية آنذاك مشروع الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد والخطّة التنفيذية له التي تمتدّ على مدى سنوات (2018-2023).
وأوضحت أنّه الى جانب القضاء والأجهزة الرقابية، ثمّة آلية قائمة في لبنان لمحاربة الفساد، تتمثّل بلجنة وزارية وأخرى فنية أنشئتا في العام 2011 تنفيذاً لالتزامات لبنان في إطار «إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد» (2003)، وتحديداً المادة الخامسة منها، ولإعادة بناء الثقة بين الشعب اللبناني وسلطته، إلاّ أنّها لا تلقى الدعم الكافي من أي جهة أو طرف. وقد جرى البناء عليها وتطويرها لوضع الوثيقة الحالية ولترجمة الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد الى مخطّط تنفيذي.
ولأنّ العِبرة في التنفيذ، على ما أضافت المصادر نفسها، فإنّ هذا ما يزال ينقص لبنان، إذ أنّه في كلّ مرّة يعتزم فيها المسؤولون مكافحة الفساد يتراجعون عن الفكرة، إمّا تجنّباً لنشوب الخلاف السياسي فيما بينهم على خلفية الإتهامات التي تتطلّبها محاربة الفساد، أو لعدم قبول أي منهم أن يمسّه القانون شخصيّاً، ولأخذ الأمر المنحى السياسي والطائفي قبل أي شيء آخر. فالكلّ يرى الفساد المستشري والمنظّم والمتحكّم بالقطاعات كافة في البلد، إلاّ أنّ كلّ فريق يتهم الفريق الآخر به، ويرفض أن تتمّ مساءلته أو التحقيق معه في ملف ملتبس. من هنا، فإذا كانت الآلية قد وُضعت لتعزيز الشفافية والمساءلة، على ما ذكرت، إلاّ أنّ تفعيلهما لا يزال غائباً في ظلّ عدم موافقة جميع الأطراف على «محاربة الفساد» بما لهذه العبارة من معنى فعلي وقانوني وإجتماعي، ما يجعلها تبقى من أكثر العبارات المتداولة على ألسنة السياسيين، دون أن تجد طريقها الى التنفيذ.
وتقول بأنّ الفساد الذي يُصيب لبنان بقطاعيه العام والخاص في المجالات كافة ويطال الأموال العامة، لا سيما خلال عقد صفقات الأشغال والخدمات التي تُجريها الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات، فضلاً عن مجالات الضرائب والرسوم الجمركية والعقارية، وقطاعات الكهرباء والمياه والنفط والغاز والإتصالات والصحّة والبيئة والنفايات، ليس مجهولاً أو مخفياً، بل على العكس يسهل كشفه وإثبات حصوله وتوفير الأدلة التي تُمكّن من إلقاء القبض على الفاسدين والتحقيق معهم ومعاقبتهم، إلاّ أنّ التغطية السياسية لهؤلاء تمنع الأجهزة الرقابية من الإستقصاء عنه، وسوق المرتكبين الى القضاء.
لهذا، فإنّ أكثر ما يحتاجه لبنان لمحاربة الفساد فعليّاً، على ما شدّدت المصادر، هو قرار سياسي جامع، لا يستثني أي من السياسيين والمسؤولين والكتل النيابية والأحزاب الذين قد تطالهم المساءلة والمحاسبة، خصوصاً إذا ما كان هناك أموال «منهوبة» خلال عهدهم أو في وزاراتهم أو إداراتهم وما الى ذلك. فإنّ استعادة الحقوق والحدّ من الظلم الإجتماعي لا يكونا فقط من خلال وضع القوانين والآليات، على ما طالب بعض النوّاب، إنّما من خلال تحديد أسباب الفساد أولاً كونه يُشكّل نقطة الإنطلاق في الطريق الصحيح لمكافحته، والتي تتعلّق بغالبيتها بموضوع الرشوة، والخشية من الكشف عن المرتكبين، وعدم الملاحقة القانونية لكلّ الفاسدين وما الى ذلك.
وأشارت الى أنّ لبنان، وفق معلومات «الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية» (لا فساد)، قد حصل على مرتبة 28/100 للعام السادس على التوالي، بحسب مؤشّر مدركات الفساد للعام 2018، الصادر عن منظمة الشفافية الدولية. وسجّل لبنان تقدّماً إلى المرتبة 138 عالمياً من أصل 180 دولة يقيسها المؤشر، مقارنة بمرتبة 143 من أصل 180 للعام 2017. غير أنّ هذا التقدّم لا يعكس تحسّن نتيجة لبنان في مكافحة الفساد، لا بل ينتج عن تراجع بعض البلدان في المؤشر العام. أما على المستوى الإقليمي، فقد حافظ لبنان على مرتبته الـ 13 من أصل 21 دولة عربية.
من هنا، يتبيّن مدى خطورة الفساد الذي يُعاني منه لبنان والذي لا بدّ من وضع حدّ له من خلال التوافق على ذلك في مجلسي الوزراء والنوّاب. فلبنان الذي انضمّ الى «اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد» وفق القانون رقم 33/2008 لا بدّ وأن يلتزم بما تنصّ عليه من «ترويج وتدعيم التدابير الرامية الى منع الفساد ومكافحته والتحرّي عنه وملاحقة مرتكبيه، وتجميد العائدات المتأتية من الأفعال المُجرّمة وحجزها وإرجاعها، ووضع سياسات وممارسات مكافحة الفساد الوقائية، وإيجاد هيئة متخصّصة أو أشخاص متخصّصين في مكافحة الفساد، واعتماد وترسيخ وتدعيم النظم لتوظيف المستخدمين المدنيين والموظفين العموميين وتدريبهم على أساس مبادىء الكفاءة والشفافية والمعايير الموضوعية، ومراقبة المشتريات العمومية وإدارة الأموال العمومية، ووضع تدابير متعلّقة بالجهاز القضائي، وأجهزة النيابة العامة لتعزيز استقلالية القضاء ومكافحة الفساد».
وحتى الآن قام لبنان بتوسيع صلاحية «هيئة التحقيق الخاصّة بمكافحة تبييض الأموال»، وجرى توقيع وإبرام إتفاق إنشاء الأكاديمية الدولية لمكافحة الفساد من أجل تعزيز العمل على منع الفساد. كما تمّ توسيع صلاحيات الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وصلاحيات الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بموجب قانون دعم الشفافية في قطاع البترول، وإقرار مشروع قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية، غير أنّ كلّ ذلك يبقى غير كافٍ لأنّ أي من «الفاسدين» لم يتمّ تقديمه حتى الآن الى القضاء لمحاكمته وإرجاع الأموال التي سرقها أو اختلسها بطريقة غير مشروعة.