سجلت مصادر سياسية ان ردود الفعل الافتراضية على الاتفاق-الاطار حول ترسيم الحدود البحرية والبرية مع الكيان الاسرائيلي «أوغلت في هَتك المنطق»، اذ راح البعض يصوّب على الاختراق الذي تحقق في ملف ترسيم الحدود، برغم أنّ الترسيم نفسه كان مطلباً وطنياً عامّاً طوال السنوات التي تَلت انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان، ومن ثمّ بعد الاكتشافات الغازية والنفطية التي يتوقع أن تكون واعدة في مياهنا البحرية، والتي قد تمثّل فرصة خلاص، ولو مؤجّلة، للاقتصاد اللبناني المتهاوي.
وذكّرت المصادر القريبة من 8 اذار كيف ان «البعض فرح بإعلان شركة «توتال» قبل أشهر عن توقف العمل في البلوك رقم 4، لا لشيء، سوى أنّ هذا الأمر يكرّس ما يراه البعض فشلاً لفريق بعينه، رغم أنّ الانتكاسة – التي قد تكون مؤقتة بالنظر إلى أنّ الاستكشافات التي قامت بها الشركة الفرنسية أبقَت على آمال كبيرة في انّ الرقعة النفطية قبالة الشاطئ الشمالي لبيروت قد تكون واعدة في المستقبل – يفترض أن تكون قد طالت الجميع، بصرف النظر عن الانتماءات السياسية والطائفية والمذهبية».
وسألت المصادر هل ان سيل الانتقادات التي قوبِل بها الاتفاق-الاطار، الذي أعلنه الرئيس نبيه بري، كان سيقابل بردود الفعل القاسية لو أنّ الإعلان صدر عن شخص آخر غير الرئيس بري؟ بمعنى آخر، هل أن الاختراق لو تحقق على أيدي حكومة محسوبة بشكل أو بآخر على فريق آخر، كان سيُقابَل بهذا القدر من الانتقادات الحادة التي طالت حتى الشكليات البديهية لاتفاقات مماثلة؟
وترد المصادر بالاتي:
أولاً، فاتَ على المنتقدين أن الرئيس بري لم يستخدم كلمة «إسرائيل» إلا في قراءته لبنود الاتفاق-الإطار، أي انه استخدم الكلمة كما ورد في المصطلحات المعروفة في اتفاقيات مماثلة ابتداءً من اتفاق الهدنة عام 1949، وصولاً إلى تفاهم نيسان عام 1996.
ثانياً، يجهل المنتقدون التمييز بين «اتفاق-إطار»، أي اتفاق على التفاوض ضمن الآلية الثلاثية التي تجنّب لبنان المفاوضات الثنائية، وبين «الاتفاق النهائي» على الترسيم.
ثالثاً، يخلط المنتقدون أنفسهم بين «الاتفاق النهائي» على ترسيم الحدود وبين «اتفاق السلام». فالأول، إن تحقّق، فإنّ وظيفته هي تثبيت حق لبنان في حدوده ليس أكثر، ولا يمكن أن يمتد، بأي شكل من الأشكال، إلى حدود الثاني، لكونه لا يُسقط حالة العداء التي ستظل قائمة بين لبنان وإسرائيل، بل يقتصر على ترتيبات معينة، وتحت إشراف الأمم المتحدة، على غرار تلك التي اعتمدت منذ توقيع اتفاق الهدنة.
رابعاً، إذا كانت قضية ترسيم الحدود هي مطلب لبناني جامع، فإنّ الأمر نفسه ينطبق في التطبيع مع العدو الإسرائيلي، الذي يبقى مرفوضاً من قبل غالبية اللبنانيين، إذا ما استثنينا قلّة تُزايد اليوم على موقف الرئيس بري، متناسية أنّ بري نفسه كان المساهم الاساس في إسقاط اتفاقية 17 أيار.
خامساً، وامتداداً لما سبق، فإنّ تركيز المنتقدين على تزامن الاتفاق-الاطار مع المناخ الاقليمي المتصل بالتطبيع، لا سيما بعد الاتفاقين الإسرائيلي-الإماراتي والإسرائيلي-البحريني، ومحاولة الربط بين الاختراق اللبناني والانجرار الإقليمي، يتجاوز مجرّد تَبنٍّ عادي لنظرية المؤامرة ليصل إلى حالة هوس مَرَضي بهذه النظرية، لا سيما في تجاهل حقيقة أنّ الاتصالات التي مهّدت للاتفاق-الإطار سبقت كل ذلك المناخ التطبيعي بـ10 سنوات.
وتضيف المصادر ان ثمة سؤالاً منطقياً أساسياً وهو: هل من مكاسب للبنان من ترسيم الحدود؟ وامتداداً لذلك هل من خسائر أو مخاطر؟
من الناحية الأولية، ان ترسيم الحدود، وفي ظل الظرف اللبناني الصعب، لا سيما على المستوى الاقتصادي، يمثّل نقطة محورية يمكن الارتكاز عليها في ضمان تثبيت لبنان لحقوقه البحرية، وفي القلب منها ملف النفط والغاز، الذي بات منذ سنوات يمثّل فرصة من بين فرَص قليلة أخرى يمكن الركون إليها للخروج من المأزق الذي دفع لبنان إلى نادي الدول المفلسة.
يضاف إلى ما سبق، أنّ ترسيم الحدود قد يساهم بشكل أو بآخر في تثبيت هدوء يحتاجه لبنان اليوم على جبهة الجنوب، خصوصاً أنّ الجبهة الداخلية لا تبدو محصّنة بما فيه الكفاية لمواجهة أيّ عدوان اسرائيلي محتمل، وهو بالتالي من شأنه أن يجعل معادلة الردع المثبتة من حرب تموز العام 2006 معززة بمظلة دولية، خصوصاً إذا ما اقترنَ الترسيم النهائي بضمانات دولية لوقف الانتهاكات الإسرائيلية اليومية برّاً وبحراً وجواً، وهو أمرٌ سيطالب به المفاوض اللبناني الذي لا يمكن لأحد التشكيك بعقيدته الوطنية، خصوصاً أنّ المفاوضات مع العدو الاسرائيلي سيتولّاها الجيش اللبناني، الذي لا يمكن لأحد أن أيضاً أن يشكّك بوطنيته، او بحرصه او بحمايته للسيادة الوطنية وعدم التفريط بها، خصوصاً أنّ لبنان قد تمكّن من فرض تلازم المسارين البري والبحري على النحو الذي لا يؤدي إلى انتزاع شبر واحد او كوب واحد من حقوقه الراسخة في البر والبحر.
بهذا المعنى، لا يمكن النظر إلى نتائج مفاوضات ترسيم الحدود، إذا نجحت، إلا في كونها مكسباً لبنانياً لا ينطوي على أية شائبة، وهو ما يقود إلى بحث مجهري عن السلبيات المحتملة، التي لا تكمن في القرار السياسي اللبناني بقدر ما تكمن في المحاولات المتوقعة من قبل العدو الاسرائيلي في محاولته وضع ألغام معيّنة في صيغة الاتفاق، سواء تعلّق الأمر بالحدود البحرية أو البرية. وهو فخّ لا يتوقع، بحسب ما بات معروفاً، أن ينجَرّ إليه لبنان، برغم كل البراغماتية التي يمكن أن يفرضها الواقع السياسي اللبناني المتزعزع.
وتختم المصادر، انّ بري وخلال إعلان الاتفاق، تلقّى سؤالاً مفخخاً، فكان جوابه عليه: «مُسَاقبِة إنّو أنا بري ما بِحلَى على الرَصّ»… وبعده، توالت الانتقادات والتعليقات «المنظمة»، التي حينما بَلغَته، كان الجواب حاضراً في بيت الشعر القائل:
«أنام مِلء جفوني عن شواردها ويَسهر الخلق جَرّاها ويَختصِم».