IMLebanon

ترسيم حدود المقاومة

 

لا زال الصمت الذي أعقب إعلان الرئيس نبيه بري للإتفاق الإطار مخيماً. صَعق الإعلان الحلفاء قبل الخصوم. غادر الرئيس بري في مشوار الترسيم دون أن ينذرهم، هم الشركاء المستميتون في خدمة مشروع المقاومة بالرغم عن اللبنانيين، ولو على حساب السيادة وفوق المصلحة الوطنية. يمكن تخيّل الصدمة والشرود على محيا أولئك المتعالين في محور الممانعة، الذين عبّدوا الطريق إلى القدس، ونظموا رحلات إفتراضية إلى فلسطين المحتلّة، بعد أن خوّنوا واتّهموا بكل ما جادت به مخيلتهم الخصبة كلّ منظري السيادة والإستقلال والحياد الإيجابي والمطالبين بالشرعيتين العربية والدولية ودعاة تطبيق الدستور. خلنا لفترة أنّ ما نتمسّك به من قيم الحرية والسيادة قد أضحى خارج العصر، وأنّ مقولات الجيش الموازي والاقتصاد الموازي هي المؤشرات لدول ما بعد الحداثة!!!

 

ما حصل يعبّر عن ميزان القوى الموجود، وهو لا يمكن أن يكون إلا كذلك. الموضوعية والواقعية في احتساب قدرات الولايات المتّحدة القابضة على النظام العالمي إقتصادياً وأمنياً وعسكرياً، تجعلها في موقع ليس إملاء الشروط فحسب، بل في موقع تبديل الأدوار وتوقيتها وتغيير المناورات وأساليب العمل ووضع الأولويات. هذا الأمر أدركته سوريا التي تحّولت بعد شراكتها للولايات المتّحدة في حرب الكويت عام 1991وإطلاق يدها في لبنان حتى العام 2005، إلى ساحة قتال مفتوحة لكلّ القوى الإقليمية والمنظمات الإرهابية، بما فيها حليفتها روسيا التي تتيح لإسرائيل اختيار أهدافها في العمق السوري والتعامل معها. وطهران التي تُستنزف اليوم في سوريا واليمن وربما غداً في أرمينيا، والمصعوقة باتّفاقات التطبيع بين دولة الإمارات والبحرين وإسرائيل، والرازحة تحت عقوبات صارمة ويتهمها الغرب بالإرهاب، تدرك اليوم الأمر عينه. هي التي قدّمت للولايات المتّحدة وإسرائيل خدمات جلّى في استباحة العراق وتدميره وإدخال كلّ صنوف الميليشيات الدينية إليه، وتهديّد استقرار دول الخليج العربي واستنزاف إقتصاداتها في حروب وصراعات لا سيما في اليمن ولبنان وغزة.

 

لا داعي لمحاولات اختلاق المزيد من الانتصارات الوهمية. إعلان الاتفاق الإطار لترسيم الحدود البحرية والبرية هو إنعكاس لميزان القوى القائم، بما فيه العقوبات المفروضة على أشخاص ومؤسسات ومصارف، والتي كان آخرها ما طال الوزير السابق علي حسن خليل وتفجير مرفأ بيروت، بصرف النظر عن التحقيق الإداري الذي تجريه الدولة اللبنانية، وبعده موقع عين قانا والتهديد باستهداف مواقع أخرى. هذا الاتفاق الإطار يعني بأّبسط الأحوال طيّ صفحة العمليات على الحدود الجنوبية بشقيّها الاستعراضي والتعبوي، والانتقال إلى مرحلة جديدة يحدّد سقفها الوسيط الأميركي لبتّ خلاف حدودي بحري أو بري. يتجاوز الإتفاق الإطار الذي يلحظ الدور المركزي للوسيط الأميركي كلّ ما عداه من مقاربات لقادة وشخصيات ورأي عام لبناني إتهموا بالخيانة وبطعن المقاومة وبالتعامل مع السفارة الأميركية، فقط لأنهم دعوا لتطبيق مندرجات القرار 1701 وترسيم مزارع شبعا وتطبيق القرار 1559 وحياد لبنان عن الصراعات الإقليمية وتطبيق إتّفاق الطائف.

 

الملفت للنظر فيما ورد في الاتفاق الاطار الذي أعلنه الرئيس نبيه بري أمرين :

 

الأول، عدم التطرق إلى إتّفاقية الهدنة الموقّعة من قبل لبنان وإسرائيل والأمم المتّحدة والتي تعتبر المرجع الأساس في ترسيم الحدود اللبنانية وتشكّل البند الخامس من القرار 1701، واستخدام الخط الأزرق وهو خط وقف الأعمال القتالية، وغير متطابق مع خط الهدنة في عدّة مواقع. والثاني، اعتبار تفاهم نيسان أحد المرجعيات للإتّفاق الإطار، والذي يتضمن صراحة عدم إطلاق الصواريخ على إسرائيل وعدم استخدام المناطق السكنيّة والبنى التحتيّة والمنشآت الصناعية والكهربائية لانطلاق الهجمات، كما يتضمن تعهداً أميركياً بإطلاق مفاوضات سلام بين سوريا وإسرائيل وبين لبنان وإسرائيل. أليس ذلك تسليماً أنّ زمن الصواريخ قد ذهب إلى غير رجعة؟ وهل هناك دعوة صريحة لإنعاش المفاوضات على المقلب السوري وفقاً لما ورد في التفاهم؟ هذا بالإضافة إلى إيلاء مهمة الترسيم للجيش اللبناني الكفوء، هذا الجيش الذي كان حتى الأمس القريب وعلى لسان كلّ الممانعين غير قادر على المواجهة، فأصبح موضع ثقة وعلى مستوى مقارعة العدو في أكثر الملفات تعقيداً، والسؤال المطروح بقوة هنا، أليس الجيش الذي يرسّم الحدود هو الأولى والأحق بحمايتها والدفاع عنها؟

 

ماذا تغيّر منذ العام 2000 بعد انسحاب جيش العدو الإسرائيلي من جنوب لبنان ومنع الدولة اللبنانية من بسط سيادتها حتى الحدود الجنوبية، ولماذا أُبقي على الجنوب اللبناني منطقة عمليات ولم يطبّق القرار 1701؟ المتغيّر هو علاقة كلّ من سوريا وإيران بالولايات المتّحدة، ودور كلّ من الدولتين في تقويض استقرار المنطقة على امتداد ثلاثين عاماً وفقاً للأجندة الأميركية. والفارق في حياة اللبنانيين هو وضع لبنان في مسارات إقليمية تحت عناوين التحرير واستعادة المقدّسات ومواجهة الولايات المتّحدة ومكافحة الإرهاب أكثر الفصول تضليلاً وغموضاً واستنزاف مقدراته وإسقاط دستوره وقوانينه وإذكاء الفرقة بين أبنائه!!!

 

يفترض انطلاق مسار ترسيم الحدود الاعتراف بتحوّل الصراع الذي حُمّل كلّ العناوين إلى مسألة غاز وأمن. لم يمتلك اللبنانيون قرارهم في العام 2000 لاستثمار الانسحاب ولم يمتلك حزب الله القرار في العام 2006 لتحويل نتائج العدوان والقرار 1701 لصالح مشاركته في مشروع الدولة. الآن تغيرت قواعد اللعبة، يفترض ترسيم الحدود إستخلاص العبر وإعادة ترسيم العلاقات بين اللبنانيين، بمعنى المساواة في ما بينهم كمواطنين أمام القانون، ويفترض كذلك إعادة ترسيم حدود المقاومة بمعنى إقصاء السلاح المذهبي عن السياسة.

 

بالرغم من كلّ ذلك هناك من يحاول تسجيل انتصار وهمي جديد على حساب اللبنانيين؟

 

مدير المنتدى الإقليمي للإستشارات والدراسات