من الصعب جداً تعداد الملفات التي أخفقت السلطة اللبنانية في مقاربتها وإدارتها، بحيث إنعكس ذلك خسارة وطنية أو سيادية أو إقتصادية لا تُعَوض في معظم الأحيان.
غير أن خسارة لبنان ثروة إستثمارية كامنة في مياهه، في زمنٍ يعاني فيه من أزمة إقتصادية ومالية ونقدية ومعيشية حادة ستنعكس حكماً على تركيبته الديموغرافية التي ستتلاشى نتيجة لهجرة اللبنانيين الكبرى المتوقعة، بما يعني تلاشياً وجودياً تدريجياً لشرائح متعددة من المجتمع اللبناني، فهو أمر يستوجب التوقف عنده بقوة. في حين أن السعي لإستخراج هذه الثروة واستثمارها قد يكون المنفذ الوحيد الذي يعيد الأمل بضرورة الصمود والبقاء.
ليست المشكلة مع هذه السلطة القائمة أن معظمها فاسد ومفسد وجشع ولا ولن يشبع فحسب، بل المشكلة الأعمق أنها إرتجالية تفتقر الى التخطيط للمستقبل والى إستشراف الحلول التي تجنب اللبنانيين القلق المستدام واليأس الذي يقود إما الى الحروب أو الى الهجرة.
فلو أنجزت هذه السلطة ملف ترسيم الحدود البحرية في التوقيت المناسب واستخرجت بالتالي ثروة لبنان من النفط والغاز، لكان لبنان في غنىً عن الإستمرار في الوقوف على أبواب الدول المَدينة أو المانحة أو الصناديق المالية والنقدية التي يمسك بمفاتيح خزائنها “المُبتز” الأميركي!
لكنها، أي السلطة، كانت وما زالت تستسهل “الشحادة” باعتبارها أسهل الطرق لجلب المال “الكاش”، ومن ثم هدره في مشاريع فاشلة أو مجتزأة تغطي نهبها لجزءٍ يسيرٍ منها. أين المشكلة فالدين يتراكم على اللبنانيين وهم ليسوا معنيين بهم، بل هم معنيون حصراً بعائلاتهم وحاشياتهم وبعض أنصارهم الذين يعتاشون على فتات موائدهم.
في العام 2002 طلبت الحكومة اللبنانية من مؤسسة بريطانية تسمى “المكتب البريطاني الهيدروغرافي” ومختصره بالإنكليزية “UKHO” إجراء دراسة للساحل اللبناني من كل الجهات، وبناءً على هذا الطلب أجرى المكتب المذكور دراسته الأولى والتي فتحت مسألة حدود لبنان البحرية الجنوبية على احتمالات عدة، بل يمكن القول إنها كانت متحفظة جداً لجهة تغطية أدنى الحقوق الممكنة بحيث تأرجحت بين النقطة -1 والنقطة – 23 (أنظر الخريطة)، وكالعادة تم وضع هذه الدراسة في الأدراج.
في العام 2006 تمت إعادة تكليف المكتب نفسه لإجراء دراسة جديدة وكان الهدف إعلان حدود لبنان البحرية الجنوبية، فكانت النتيجة أسوأ بحيث خسر لبنان مساحة 125 كلم2 أقل من المساحة التي وردت في الدراسة الأولى.
في العام 2008 قامت الحكومة من جديد بتكليف لجنة لبنانية لدراسة الحدود مع سوريا من جهة ومع كيان العدو الإسرائيلي من جهة أخرى، وقد أنهت اللجنة أعمالها بعد عام تقريباً بحيث أفضت الى اعتبار النقطة 23 (أنظر الخريطة) هي خط الحدود البحرية الجنوبية أي حدود منطقة لبنان الاقتصادية الخالصة.
في تموز العام 2010 ومن دون سبب جوهري مُقنِع، بادرت الحكومة اللبنانية الى إبلاغ الأمم المتحدة بإحداثيات هذه الدراسة.
في 17/12/2010 إستغل العدو الإسرائيلي إبلاغ لبنان الأمم المتحدة بخط حدوده البحرية الجنوبية ليقوم بترسيم حدود كيانه البحرية مع قبرص على أساس النقطة1، مستنداً الى إتفاقية تم إعدادها بين لبنان وقبرص بعد مفاوضات أجراها وفد من وزارة الأشغال ضم السيدين عبد الحفيظ القيسي وحسان شعبان في لارنكا العام 2007، مع العلم أنها لم تُعتَبَر نهائية ولم يتم إبرامها حتى يومنا هذا.
في حزيران العام 2011 وأثناء إنعقاد جلسة للجان النيابية المشتركة بهدف إقرار قانون لتثبيت الحدود البحرية الجنوبية وفقاً للدراسة التي تحدد النقطة – 23، طالب القاضي في مجلس شورى الدولة طارق المجذوب (وزير التربية الحالي) الذي كان حاضراً في الجلسة بالتمهل في إقرار هكذا قانون، إنطلاقاً من قناعته بأن حقوق لبنان تتجاوز ذلك بكثير وساعده في ذلك الديبلوماسي جوني إبراهيم كممثل وزارة الخارجية. لكن اللجان لم تكترث لهذه المطالبة إلا أنها في الوقت نفسه تجنبت تحديد الإحداثيات في مشروع قانونها تاركة الأمر للحكومة لتحديدها وإقرارها بمرسوم.
في 1 تشرين الأول العام 2011 أصدرت الحكومة اللبنانية مرسوماً حمل الرقم 6433 حول “تحديد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة”، وتضمن في المادة الثالثة منه إمكانية مراجعة هذه الحدود وتعديلها عند توفر بيانات أكثر دقة…
في أواخر العام نفسه 2011 ذهب وفد لبناني الى قبرص دخل في عداده جندي مجهول عمل منذ الأيام الأولى لطرح موضوع ترسيم الحدود وهو العقيد مازن بصبوص على البحث عن الحقيقة التي إعتقد دائماً أنها تتجاوز كل الطروحات التي تعتمدها الدولة، كونه كان يتم تكليفه برسم خرائط وإحداثيات تلك الطروحات. وصدف أن التقى في هذه الزيارة أبرز خبراء المكتب البريطاني ويدعى John Brown الذي أكد له أن الحقيقة التي يبحث عنها موجودة في تعديل على دراستي المكتب الأولى والثانية بحيث أنها تلحظ للبنان من دون احتساب جزر “تخليت” التي يتمسك العدو باحتسابها كمنطلق لخط حدود كيانه. كما أبلغه الخبير البريطاني أن هذه الدراسة قد تم إرسالها للحكومة اللبنانية غير أنها ما زالت مجهولة المقر حتى يومنا هذا!
في حزيران 2012 زار الموفد الأميركي فريدريك هوف لبنان ليرسم خطه الشهير، الذي انتقل بسحر ساحر الى طاولة مجلس الوزراء لإقراره، غير أن تدخلاً من الوزير جبران باسيل آنذاك أوقفه بعد نصيحة وشرح مسهب وسابق من الخبير الجيولوجي وسام شباط بعدم جواز الموافقة لأن في ذلك انتقاصاً وسطواً على حقوق لبنان، وكان بعد ذلك أن نام هذا الملف في أدراج السلطة لمدة 7 سنوات.
في 7/8/2019 دُعي العقيد بصبوص الى ندوة في مركز “الحوار الإنساني” في سويسرا حول الحدود بين لبنان وكيان العدو حاملاً معه الدراسة البريطانية الحديثة بعدما تمكن من الإستحصال عليها من الخبير البريطاني. ففوجئ بتطابق رؤيته والدراسة مع رؤية ودراسة الدكتور نجيب مسيحي اللبناني – غير الأميركي والذي لم يزر الولايات المتحدة في حياته – حول حقوق لبنان التي قد تصل الى مساحة 2200 كلم2.
في شهر 12 من العام 2019 دعا مسيحي معظم الكتل البرلمانية اللبنانية الى ندوة أقيمت في سويسرا لوضع خريطة طريق لضمان حقوق لبنان من خلال ترسيم حدوده البحرية الجنوبية وفقاً للبيانات والمعطيات الجديدة، وقد مثل كتلة الوفاء للمقاومة النائب علي فياض.
بعد إنتفاضة 17 تشرين العام 2019 وانكشاف الإنهيار المالي والنقدي والإقتصادي، بادر مستشار رئيس الجمهورية اللبنانية للعلاقات العامة طوني حداد الى طرح فكرة العمل على ترسيم الحدود البحرية الجنوبية لإستخراج النفط والغاز، إنطلاقأ من إعتباره ذلك المصدر الوحيد المتبقي لمواجهة هذا الإنهيار والمخرج الممكن لإستعادة الثقة بعهدٍ عوني رئاسي عمل على مدى أكثر من 30 عاماً من خلال علاقاته الأميركية لإيصاله وتحصينه.
إستحسن الرئيس العماد ميشال عون الفكرة فأطلق يده للبدء، فكان أن توجه حداد الى قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون الذي تربطه به صداقة عميقة منذ العام 2008 والذي زوده بدوره بكل المستندات والوثائق المتوافرة لدى الجيش حول الموضوع، وإلتأم عندها شمل الثلاثي: حداد، بصبوص، مسيحي. بعدها قام حداد بحركة مكوكية بين بيروت وواشنطن على الرغم من تعذر التنقل بسهولة في ظل تفشي وباء “كورونا” لحماية هذا المشروع وبهدف إستباق تلزيم البلوك 72 ضمن المياه الفلسطينية المحتلة درءاً لتذرع العدو بحقه المكتسب بعد بدء التنقيب.
في 29/12/2019 رفع قائد الجيش كتاباً الى وزير الدفاع السابق إلياس أبو صعب حول إكتمال الدراسة الميدانية وضرورة تعديل المرسوم وتشكيل لجنة للبدء بالتنفيذ من دون الأخذ بالإعتبار رد فعل العدو.
في شهر 3 العام 2020 رد مدير عام رئاسة الحكومة محمود مكية كتاب صعب، متذرعاً بمغالطات شكلية، مع العلم أن هذا الكتاب حمل صفة “سري للغاية” وبالتالي كان يستوجب إطلاع رئيس الحكومة حسان دياب حصراً عليه وانتظار تعليماته بشأنه.
في الشهر نفسه، بادر الثلاثي المذكور الى تقديم عرض تقني مميز لقائد الجيش ورئيس الجمهورية اللذين أبديا حماسة كبرى للإنطلاق بالمشروع، ثم حاولوا لقاء رئيس مجلس النواب نبيه بري فلم يوفقوا فكان أن إنتقلوا لتقديم العرض الى الرئيس دياب.
هؤلاء هم وآخرون أمثال الضابط في الأمن العام مازن صقر الذي كان له الفضل في إسقاط مقولة العدو حول إحتساب منطلق ترسيم خط الحدود من النقطةB1 وضباط وخبراء مصلحة “الهيدروغرافيا” في الجيش اللبناني وآخرون أيضاً عملوا لحماية هذا المشروع سياسياً، إنما إنطلقوا من قناعاتهم الوطنية بأن تثبيت حقوق لبنان في منطقته الاقتصادية الخالصة واستثمارها هو فعلٌ مقاوم يزيد من عناصر القوة والمناعة اللبنانية في وجه عدو محتل طامع بأرضنا ومياهنا وثرواتنا وساعٍ لضرب نموذج تعايشنا الفريد، فلا تعطوه الفرصة لتحقيق ذلك.