IMLebanon

تسوية مُذلّة انتقصت من السيادة الوطنية

 

نقرأ في علم السياسة أنّ التسوية أو ما يُعرف بـ«الترضية» في السياق الدولي هي سياسة دبلوماسية لتقديم تنازلات سياسية ماديّة لقوة معادية في سبيل تجنُّب نزاع، غالباً ما ينطبق هذا المصطلح على السياسة الخارجية للحكومات الضعيفة والتي تحكم خلافاً للأصول الديمقراطية.

 

في تعريف «مفهوم التسوية السياسية» يعتبر علم السياسة بأبعاده ثلاثة مبادئ رئيسية تُعتمد أثناء المفاوضات ألا وهي: المبدأ الأول – مدى شمولية التسوية، ثانياً – ميزان القوى، ثالثًا – التوفيق أو ما يُعرف بتسويق التسوية. أنّ ما حصل على ما بات يُعرف بالصراع مع دولة إسرائيل لناحية «ترسيم الحدود»، أخذ بعين الاعتبار من قبل الجهتين الراعيتين الدولية والإقليمية مبدأ دقيق لتوازن القوى بين أطراف النزاع. فيما حصل وبالرغم من التعتيم على بعض بنود هذا الإتفاق وما رشح من بعض الدبلوماسيين وعلى ذمّة أحدهم على هامش لقاء جمعنا به حاصراً الأمر بالتالي «إنّ الدقة السياسية الدبلوماسية أيُّها الصديق تستوجب فصل القيم السياسية المطلقة عن حقائق الواقع النسبي في أية تسوية سياسية، وبالتالي عليك ألاّ تتعجب مما حصل وما سيُحكى عن تنازلات لفريق سياسي معيّن باع وإشترى ورهن…».

أحد الكتّاب السياسيين الذين إلتقيتُ بهم أوحى إليّ بأمر التسوية المشكو منها، والتسوية التي تعتلمون عنها هي أكبر من إتفاق أو إتفاقية الهدنة، فهذه إتفاقية عسكرية في المقام الأول والهدف المنشود وهي لا سياسية ولا تتوخى الدقة في حفظ الحقوق. كل هدفها توفير مناخ تفاوضي يُريح القوي على حساب الضعيف، وليس في هذا الأمر غرابة لأنّ مصلحة الدولة القوية ليستْ مبنيّة على هدف واحد وقد تصل إلى أكثر ممّا إتُفِقَ عليه من بنود ذلك أنّ أمر هذه التسوية يأخذ العديد من التأويلات، وفي هذا الإطار وفي حالة غياب منطق النزاهة في ممارسة العمل السياسي لا يبقى من إمكان غير تسوية مُذلة.

على ما يبدو إنّ هذه التسوية هي قدر اللاعبين بمصير السياسة اللبنانية وبمحتكريها، وكما يبدو هي خاتمتها المتوقعة بعد هذه الجعجعة من التصاريح والوعيد واللعب بعواطف اللبنانيين، وفي علم السياسة وفي هذه الظروف من الطبيعي أنْ تكون طاولة المفاوضات هي خيار المنهزم الأول، وكما هو ظاهر هناك عامل دولي ضغط في مكان ما ولأسباب معينة غير مجهولة ومضمونها أنّ هذا الطرف لا يبغي هزيمة طرف مُهيمن على مراكز القرار في لبنان بواسطة وكلائه المباشرين والمتعاونين لكونهم مُجرّد ورقة سياسية ضاغطة مستخدمة وعاملة لدى الطرف الإقليمي، وبالتالي الطرف الفاعل والمُسيطر على المسرح السياسي الدولي وأعني الولايات المتحدة الأميركية سعتْ إلى تسوية وضع هذا الطرف المُسيطر على لبنان وإعادة الإعتبار له تحت مُسمّى إعلان «قبول عملية الترسيم»، وهذا ما يحصل في الكواليس عادة وفقِ علم السياسة.

هذا النوع من التفاوض أقلق البعض وهم قلّة وللأسف مُحاصرين مالياً وفكرياً وجغرافياً لأسباب عديدة منها اقتصادية – مالية – إجتماعية – ملاحقات تعسفية، وهم باتوا يخشون في هذه المرحلة بالذات مخافة تكرار تجربة إتفاق الطائف وما تلاها من إنحسار للحرية ومن تغييب للقرار الحر والفاعل… وكلها محطات سياسية كانت تتم فيها الذهاب إلى واقع سياسي كاذب، يُضاعف تكاليفه وتضحياته أكثر لمحطات آتية أكثر عنفاً وإذلالاً وإستسلاماً وتنكُراً للأمور السيادية. كما بتنا بحاجة ماسّة إلى أكثر من جهد محلي – إقليمي – دولي لإعادة تصويب الأمور سواء أكان من ناحية مخاطبة المجتمع الدولي من خلال خطاب سياسي فاعل وصادق أو من خلال تكوين رأي عام رافض للواقع الحالي والذي يقضي على كل المكوّنات الإستقلالية للدولة، أو ربما الذهاب لإقناع المجتمع الدولي بإصدار قرار أممي مُلحق للقرار 1559…

لو كُنّا في دولة سيّدة محترمة تحترم القوانين، ولو كُنّا في حضرة مسؤولين سياسيين شرفاء نُبلاء، لو كُنّا في ظرف إقليمي – دولي يحترم أصول العلاقات فيما بين الدول، لكُنّا ذهبنا إلى ما يُعرف بـ«التسوية السلمية للمنازعات» الوارد في الفصل السادس الصادر عن الأمم المتحدة والذي يتناول ممارسات مجلس الأمن الرامية إلى ترويج وتنفيذ التوصيات السلمية للمنازعات في إطار المواد 33 إلى 38 من الفصل السادس والمادتين 11 و99 من ميثاق الأمم المتحدة، وبالإجمال يحتوي الفصل السادس على شتّى الأحكام التي يجوز لمجلس الأمن أن يُقدم بمقتضاها توصيات إلى الأطراف المتنازعة أو الأطراف في حالة ما…

ad

بين خياريْ الحسم والتسوية السياسية تتأرجح النهاية المفترضة للمرحلة النضالية الراهنة من عمر الشعب اللبناني التوّاق إلى وطن مُصانة حقوقه وثرواته وسيادته. فبالنسبة لقطاع واسع من اللبنانيين يظل الخيار النضالي الشريف فضلى الخيارين غير أنّ إستعصائه على مدى هذه الفترة تسبّب في إنحسار الجزئي لصالح خيار التسوية المشكو منها.

المؤسف أنّ ثمة من بات يرى في التسوية المستعصية على الفهم والقبول خياراً مثالياً لنهاية مرحلة نضالية طالب فيها الثوّار المحافظة على كراماتهم ووطنهم وسيادته ودولته وثرواته الطبيعية دونما أي إنتقاص. ويأتينا ساسّة يُسوّقون التعليلات لتبرير إنسياقهم المستميت فتارة يحدثونك عن عدم التوقيع بحجة أنّ الطرف الآخر عدو وتارة يستعزفون على وتر المخاوف من خيارات معينة غير أنهم يُجانبون مثلاً غمار الخوض في كل التفاصيل التي كشفها ويكشفها الدكتور عصام خليفة في كتاباته ومؤتمراته الصحفية وإطلالاته الإعلامية.

إننا ضد هذه التسوية المُذلة التي لا تُحقق للشعب اللبناني تطلعاته وبما أنّ هذه التسوية ويا للأسف باتتْ ظاهرة وواقع مؤلم لا يُمكن رفضها حالياً، في ظل تعنُّتْ القائمين على النظام السياسي اللبناني وتشبثهم وإحتكارهم للسلطة فإنّ البديل يكمن في صمود الرافضين لها والمُضيّ قُدُماً في تقديم مشاريع حلول تستنبط إيقاف هذا النوع من الممارسة السياسية العفنة وبالتنسيق مع مراجع مشهود بنزاهتها ونُبلها وطهارة عملها السياسي عندها يمكن التفكير بإعادة النظر بما تمّ، ولكن هل من يقرأ من القادة الروحيين والعلمانيين خطورة هذه التسوية ومفاعيلها الخطيرة على السيادة الوطنية، وهل يُشاركوننا الرأي في إعتبار أنها تسوية مُذلة إنتقصتْ من السيادة الوطنية وأراحت تجار السياسة وأذلت الشعب وقضت على كرامته وثرواته؟