إتفاق الترسيم ومخاطره…أهمّها: منع لبنان من تقديم إحداثيّات جديدة للأمم المتحدة إلاّ بالتفاهم مع “الإسرائيلي”
لا يزال البعض يرى بأنّ توقيع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون على إتفاقية الترسيم الرسمية التي يحملها الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين قبل ظهر يوم غد الخميس في 27 تشرين الأول الجاري الى قصر بعبدا ليتمّ التوقيع عليها قبل 4 أيّام من انتهاء عهد الرئيس عون، بأنّه قد يكون أحد الأفخاخ التي نُصبت في طريق العهد. ويتضمّن هذا الأخير تحميل رئيس الجمهورية بمفرده مسؤولية التوقيع على الخط 23 كحدود لبنان البحرية مع العدو الإسرائيلي بدلاً من الخط 29 الذي جرى التفاوض على أساسه من قبل الوفد اللبناني العسكري التقني على طاولة الناقورة، ومن ثمّ قام الرؤساء الثلاثة بالتنازل عنه لتسهيل التوصّل الى اتفاقية بين الجانبين وحلّ النزاع الحدودي. فعدم طرح الإتفاقية في مجلس النوّاب يجعل البرلمان بأكمله براء منها، وعدم التوقيع عليها بالتالي من قبل مجلس الوزراء كون حكومة الرئيس نجيب ميقاتي الحالية هي حكومة تصريف أعمال ولا تجتمع، وبالتالي لن تُوقّع على الإتفاقية، يجعل مجلس الوزراء براء منها أيضاً.
فهل جرى حشر الرئيس عون في الزاوية قبل أيّام من انتهاء عهده، ليُصار مستقبلاً الى إلقاء اللوم عليه كونه استعجل في الموافقة على الإتفاقية الأميركية لتحقيق إنجاز كبير في عهده، في حال لم يتمكّن لبنان من استخراج النفط والغاز لسبب ما قد يتعلّق مجدّداً بالضغوطات على الشركات النفطية الدولية، لا سيما “توتال” الفرنسية، أو لأي سبب آخر؟
مصادر سياسية مطّلعة أكّدت بأنّ الموافقة على اتفاقية الترسيم البحري التي عرضها هوكشتاين، وسيتمّ تبادل الرسائل بصددها غداً في الناقورة تحت راية علم الأمم المتحدة، وبوساطة هوكشتاين، لم يُوافق عليها الرئيس عون بمفرده، إنّما مهّد لها رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي في “اتفاق الإطار” الذي على أساسه انطلقت المفاوضات في الناقورة في 14 تشرين الأول 2020، وقد نصّ على الخط 23. كما بموافقة ميقاتي الذي جرى توقيع المرسوم 6433 في عهد حكومته السابقة، والذي حدّد أيضاً خط الحدود البحرية بالخط 23. وذكّرت المصادر بأنّه في 14 تمّوز من العام 2010 بادر لبنان الى إيداع الأمم المتحدة إحداثيات حدود منطقته الإقتصادية الخالصة الجنوبية مع فلسطين المحتلّة، والتي حدّدها بخط الناقورة وبالنقطة 23 بشكل منفرد، لاستحالة التفاوض مع “الإسرائيلي”. كما أودع إحداثيات حدوده الشمالية مع سوريا بالنقطة 7، وقد حدّدها أيضاً بشكل منفرد لعدم رغبة السوري بالتفاوض مع لبنان آنذاك.
وأضافت المصادر أنّ “حكومة ميقاتي في العام 2011 كلّفت المكتب الهيدروغرافي البريطاني بإعداد دراسة لترسيم الحدود البحرية اللبنانية، وقد أصدرها بعد أن الخبراء عليها بتاريخ 17 آب 2011. وفي اليوم التالي أي في 18 منه صدر القانون 163 القاضي بتحديد وإعلان المناطق البحرية للبنان. وبناء عليه أنيط بالحكومة إصدار مرسوم تعيين الحدود البحرية اللبنانية، غير أنّها لم تأخذ بما ورد في الدراسة البريطانية، التي نصّت على أنّ حدود لبنان البحرية هي جنوب الخط 29، من دون أن تُعرف الأسباب حتى الآن. علماً بأنّ هذه الدراسة بقيت في الأدراج ولم يتمّ نشرها، رغم أنّ كلفتها المالية كانت مرتفعة، ولكن جرى تسريب بعضاً من مضمونها ومن خرائطها. وهذا يعني بأنّ حكومة ميقاتي قرّرت الإبقاء على ما جرى التوصّل إليه من قبل اللجنة الخاصة التي صدرت نتائج أعمالها في العام 2009، والتي أكّدت على ما قامت به الحكومات اللبنانية قبل ذلك في الأعوام 2007، و2008، و2009. فأصدرت المرسوم 6433 الذي حدّد الإحداثيات بالخط 23 في 1-10-2011، وأرسلته الى الأمم المتحدة.
وأشارت المصادر نفسها الى أنّه في العام 2012 شكّلت حكومة ميقاتي لجنة خاصة أخرى لإعادة درس مسألة ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة للبنان، فأعادت التأكيد على القرارات المتخذة من قبل الحكومات السابقة. غير أنّه مع بدء التفاوض في الناقورة في تشرين الأول من العام 2020، جرى تعليق الجولات غير المباشرة بين الوفدين اللبناني و”الإسرائيلي” مرّات عدّة من قبل هذا الأخير، بحجّة أنّ لبنان طرح الخط 29. فيما أراد الأميركي و”الإسرائيلي” حصر حدود المنطقة المتنازع عليها بالخطين 1 المودع من قبل “إسرائيل”، و23 المودع من قبل لبنان لدى الأمم المتحدة خلال السنوات الماضية. ولهذا قامت قيامة الخبراء والأكاديميين والقانونيين، وشُكّلت “جبهة الدفاع عن الخط 29″، ومارست هذه الأخيرة الضغوطات على المسؤولين اللبنانيين لتعديل المرسوم 6433، إذ يحقّ للبنان القيام بذلك وفق المادة 3 منه، التي تنصّ على أنّه “يُمكن مراجعة حدود المنطقة الإقتصادية الخالصة وتحسينها وبالتالي تعديل لوائح إحداثياتها عند توافر بيانات أكثر دقة ووفقاً للحاجة في ضوء المفاوضات مع دول الجوار المعنية”، على أن “يُكلّف رئيس مجلس الوزراء أو من يُفوّضه باتخاذ الإجراءات اللازمة لابلاغ كافة الجهات المعنية لا سيما منها الدوائر المختصة في الأمم المتحدة”، بحسب المادة 4 منه.
غير أنّه عندما طالب الأكاديميون والخبراء الحكومة اللبنانية بتعديل المرسوم 6433، على ما أوضحت المصادر، أحالت الأمانة العامّة لمجلس الوزراء في 12 نيسان 2021 الى رئاسة الجمهورية اقتراح وموافقة رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب على مشروع المرسوم المتعلق بتعديل المرسوم رقم 6433، بعد أن وقّع عليه كلاً من وزيري الدفاع زينة عكر والأشغال العامة والنقل ميشال نجار، لأخذ الموافقة الاستثنائية عليه من رئيس الجمهورية لإصداره وفقًا للأصول التي يتم اتباعها في جميع الملفات التي تستدعي العرض على مجلس الوزراء، ويُستعاض عن موافقة مجلس الوزراء بخصوصها بموافقة إستثنائية تصدر عن رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء، وعلى أن يصار إلى عرض الموضوع لاحقًا على مجلس الوزراء على سبيل التسوية. غير أنّ الرئيس عون لم يُوقّع المرسوم الذي يُعدّل المرسوم 6433 والذي يصحّح حدود لبنان البحرية جنوباً من الخط 23 إلى الخط 29، ويضيف نحو 1430 كيلومتراً مربعاً على المساحة السابقة 860 كيلومتراً، والتي كان فرضها الخط 23، ويعطي لبنان الحقّ في التفاوض على نسبة من حقوقه البحرية في حقل “كاريش”. ولم يُعطَ أي سبب واضح لرفضه التوقيع، سوى أنّ التعديل مرتبط بالمفاوضات، ولا بدّ من الحفاظ على معطيات من شأنها إنجاحها، ولا يمكن اتخاذ خطوات قد تؤثر على مسارها. وفي حال الوصول إلى حائط مسدود، فعندها لكلّ حادث حديث والمرسوم موجود”. وقد قال بعض الوزراء آنذاك في السرّ، بأنّهم يرفضون التوقيع على تعديل المرسوم، لكي لا يتمّ تحميلهم أي مسؤولية فيما بعد بخسارة أو ربح لبنان في منطقته الإقتصادية الخالصة.
ولفتت المصادر عينها الى أنّ الفقرة “د” من القسم الأول من الإتفاقية التي سيُوقّع الرئيس عون عليها، تنصّ على أنّ الإحداثيات الواردة في مراسلة كل من الطرفين الى الأمم المتحدة، تحلّ محلّ المذكّرتين المودعتين لديها من قبلهما، أي محل المرسوم 6433 المُرسل من قبل لبنان بتاريخ 19-10-2011، ما يعني انتفاء المادة 3 المذكورة آنفاً. والأخطر من ذلك أنّ هذه الفقرة نفسها تؤكّد على أنّه “لا يجوز أن يُقدّم أي من الطرفين مستقبلاً الى الأمم المتحدة أي مذكّرة تتضمّن خرائط أو إحداثيات تتعارض مع هذا الإتفاق، ما لم يتفق الطرفان على مضمون مثل هذه المذكرة”. وهذا يعني بأنّ الإتفاقية تمنع لبنان من تقديم أي إحداثيات جديدة الى الأمم المتحدة، والى القضاء الدولي مستقبلاً، إلاّ بعد التفاهم مع العدو الإسرائيلي. وهذه مسألة لا يُستهان بها، لأنّها تنزع قرار لبنان من يده في حال تأكّد من إحداثيات جديدة تقضي بتعديل حدوده البحرية، ما يجعل الإتفاقية مُبرمة، ومن غير السهل على لبنان التصرّف من دون موافقة الطرف الآخر.
من هنا، تقول المصادر بأنّه ليس المهم مَن سيُوقّع على اتفاقية الترسيم غداً الخميس، وأكان الرئيس عون بمفرده أم مع جهة رسمية أخرى، ما دامت الشرعية بيده في الوقت الحالي، ولا يُمكن لحكومة تصريف الأعمال القيام بذلك، خصوصاً وأنّ المذكّرة التي ستُرسل الى الأمم المتحدة، تتضمّن الإحداثيات نفسها التي نصّ عليها المرسوم 6433، والذي وافقت عليه جميع الحكومات منذ العام 2011 وحتى اليوم.