يعيش لبنان أياماً أو أسابيع قليلة يمكن اعتبارها مفصلية. فهو على وشك الدخول إما في مرحلة التقاط أنفاس، وإما في طبقة أدنى من الانهيار.
الصورة واضحة: حكومة إسرائيل تريد الغاز في أسرع ما يمكن، والأميركيون والأوروبيون يدعمونها. لذلك، هم يستعجلون إنجاز اتفاق الترسيم قريباً. لكن هناك فرصة استثمار سياسي لا يريد بنيامين نتنياهو تفويتها على أبواب الانتخابات التشريعية. وهذا ما قد يفرمل الاتفاق إلى ما بعد الانتخابات، أي على الاقل إلى نهايات العام 2022.
أيضاً، لبنان المنهار له مصلحة في استخراج الغاز. إذ لم يبقَ للسلطة فيه إلّا هذا المورد للنهوض، بعدما سحب المجتمع الدولي يده من أي مساعدة. وتعتمد هذه السلطة سياسة الترقيع واستنفاد الأموال القليلة الباقية في المصرف المركزي لإمرار الوقت. وقد شارفت على النفاد. ولذلك، هي أيضاً تريد اتفاق الترسيم قريباً. ولا يقف الإيرانيون حجر عثرة في وجه هذا الاتفاق ما دام حلفاؤهم في لبنان هم الأقوياء وأصحاب القرار في المفاوضة ثم في التنفيذ.
إذاً، في المبدأ، المعنيون الأساسيون باتفاق ترسيم الحدود يستعجلون إقراره خلال أيام أو أسابيع قليلة، لأنّ المهلة المتاحة مضبوطة تماماً باستحقاقين متزامنين: في لبنان انتهاء ولاية رئيس الجمهورية في نهاية تشرين الأول، وفي إسرائيل انتخابات تشريعية جديدة في مطلع تشرين الثاني.
واضح أنّ الأميركيين والجانبين اللبناني والإسرائيلي يسرعون الخطى للحؤول دون الوقوع في فخّ المهل الدستورية هنا وهناك. ولذلك، يُتوقع أن يقدّم الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين صيغة مكتوبة للاتفاق إلى الجانبين خلال هذا الأسبوع، كما أوحى المفاوض اللبناني المكلّف من جانب رئاسة الجمهورية الياس بو صعب.
وفي المبدأ، غالبية النقاط الخلافية الأساسية تمّ حسمها. ولكن، هناك نقطتان يريد لبنان ضمان الاتفاق عليهما:
1- التفاهم حول مسألة خط «العوامات»، وهذا ممكن إذا قدّم الإسرائيليون ما يكفي من الوثائق والضمانات التي تحفظ حق اللبنانيين وهوامش حركتهم في مياههم.
2- اعتراف إسرائيل بأنّ للبنان وحده الحق في استثمار مخزونات الغاز الكامنة في حقل «قانا»، بما في ذلك الجزء الصغير الذي يتجاوز الخط 23، وتالياً، بأنّ إسرائيل لن تطالبه بتعويضات مالية أياً كان حجمها، بذريعة استفادته من الغاز الذي يتضمنه هذا الجزء.
وليس هناك ما يوحي بأنّ النقطة الثانية قد حُسِمت. بل إنّ الإعلام الإسرائيلي يتحدث عن هذه المسألة وكأنّ اللبنانيين موافقون على طرحهم، أي أنّ شركة «توتال» التي ستتولّى التنقيب هناك، هي التي ستتولّى تعويض الجانب الإسرائيلي.
ومن الواضح أنّ حكومة يائير لابيد لا تحبذ الغوص كثيراً في هذا الموضوع خارج طاولة التفاوض المغلقة، لأنّه بالضبط نقطة الضعف التي يستغلها الخصوم في الانتخابات، إذ يتهمونها بالتفريط بـ«الحقوق»، سواء بالأرض أو بالموارد الطبيعية.
إذاً، اتفاق الترسيم يبدو قريباً جداً، بل هو جاهز للتوقيع، إذا تمّ النظر إلى الخطوط الكبرى. ولكن، في التشريح، تظهر شياطين التفاصيل القادرة على التعطيل وإعادة كل شيء إلى النقطة الصفر. وسيكون التحدّي تجاوز المأزق في فترة الأيام أو الأسابيع القليلة الباقية، قبل أن تفرض الاستحقاقات الدستورية نفسها على الجميع.
إذا انتهت ولاية الرئيس ميشال عون من دون انتخاب رئيس جديد، فلن تكون هناك مرجعية مؤهّلة إقرار الاتفاق من الجانب اللبناني، لأنّ توقيع المعاهدات الدولية هو من الصلاحيات المحدودة التي بقيت لرئيس الجمهورية بعد الطائف.
وسينشأ جدل دستوري في الداخل حول حقّ الحكومة في توقيع المعاهدة، باعتبارها المولجة صلاحيات الرئاسة بالوكالة، حتى ولو كانت حكومة فاعلة. وطبعاً، سيكون الأمر أصعب بكثير إذا بقيت حكومة تصريف للأعمال.
لذلك، هناك ضغط دولي استثنائي على لبنان لاستيلاد حكومة فاعلة، ثم انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل انتهاء الولاية الحالية، بهدف تحضير الأرضية لتوقيع اتفاق الترسيم. وفي الموازاة، تبذل إدارة الرئيس جو بايدن جهوداً حثيثة لتمكين حكومة لابيد من إمرار الاتفاق سريعاً قبل الانتخابات، لأنّ التأجيل إلى ما بعدها سيفتح الباب لعناصر أخرى، ما يعني تطيير الاتفاق لفترة يصعب تقديرها.
هذا التفرّغ الدولي للاهتمام بلبنان، في خضم الأزمات الدولية الساخنة، غير مسبوق منذ فترة طويلة. ولكنه اهتمام محدود بفترة أيام أو أسابيع قليلة. وبعد ذلك، إذا ضاعت فرصة التسوية، فإنّ المجتمع الدولي سيصرف النظر عن لبنان حتى إشعار آخر، ويترك للبنانيين الغارقين في أزماتهم أن يتدبَّروا أمورهم بأنفسهم.
يعني ذلك أنّ الفترة الحالية، القصيرة جداً، هي فترة حاسمة للبنان، ومفترق فاصل. فإما تسوية داخلية شاملة، مدعومة خارجياً، واتفاق ترسيم يوفّر خروجاً مؤكّداً من وضعية الانهيار. وإما ضياع الفرصة والدخول في مزيد من الفوضى الدستورية والسياسية والمالية والنقدية… والأمنية ربما. فهل يصدِّق أحد أنّ المعجزة يمكن أن تتحقق خلال أيام أو أسابيع قليلة؟