تتعرض المنطقة العربية بكامل تعقيداتها وصراعاتها المفتوحة لتظاهرة دبلوماسية توحي برغبة أميركية واضحة في استرداد الملفات كافة، وبتصوّر إمتلاك القدرة على احتوائها وإخراجها من دائرة الدوران حول نفسها. تقدّم مفاوضات فيينا التي لم تصل بعد إلى خواتيمها نموذجاً واضحاً لهذا الجنوح الأميركي الذي يحاول أن يجمع بين إحياء الإتّفاق النووي، الذي ألغته إدارة الرئيس دونالد ترامب، وتعويض طهران عن العقوبات التي فُرضت عليها. وفي الوقت عينه التصرف بثقة موصوفة أنّ إدارة الرئيس بايدن قادرة على ضمان أمن إسرائيل وأمن حلفائها في المنطقة ولا سيما الدول الخليجية، بالرغم من عدم التطرق لبرنامج الصواريخ البالستية الإيرانية وانتشار الأذرع والميليشيات الإيرانية من لبنان إلى اليمن. فبالرغم من اللقاءات التي أجرتها شخصيات أمنية وعسكرية إسرائيلية في واشنطن، من بينها رئيس الاركان أفيف كوخافي ورئيس الموساد يوسي كوهين، في محاولة لتصويب المسار الأميركي مع طهران، فإنّ جلّ ما تلقاه الفريق الإسرائيلي الزائر كان جملة من العبارات الغامضة التي توحي برفض الإفصاح عن النيّة الأميركية وعدم الرغبة بإشراك أحد في القرار الأميركي.
وبالتزامن مع الغموض المحيط بمجريّات فيينا، بدأ وفد أميركي رفيع المستوى ضمّ المستشار لدى وزارة الخارجية ديريك شوليت ومنسّق مجلس الأمن القومي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا بريت ماكغورك، والقائم بأعمال مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى جوي هود، ونائبة مساعد وزير الدفاع لشؤون الشرق الأوسط دانا سترول، منذ يوم الأحد الفائت مهمة في الشرق الأوسط يزور خلالها الوفد أبوظبي وعمّان، لمناقشة القضايا الإقليمية وتعزيز الشراكة الإستراتيجية مع كلّ من الإمارات والأردن، ومسألة الأمن الإقليمي والتعاون الإقتصادي مع مصر، والجهود الدبلوماسية الجارية للتوصّل إلى حلّ للنزاع اليمني في الرياض. هذا بالإضافة إلى لقاء دبلوماسي شهدته العاصمة العمانية مسقط يوم أمس، باستضافة المبعوثيّن إلى اليمن الأميركي تيموثي ليندركينغ والأممّي مارتن غريفيث، القادمين من الرياض، بالتزامن مع زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود إلى عُمان، حيث تتواصل الجهود السياسية لإيجاد حلّ لأزمة اليمن.
تمثّل هذه المناورة الدبلوماسية عملية استلام حقيقية لملفات المنطقة من قِبل الإدارة الجديدة ولا تخرج المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية غير المباشرة حول الحدود البحرية عن هذا السياق، حيث يبدو المجال مفتوحاً لإعادة تركيب المنطقة والخروج من النمطية المعهودة. وبهذا المعنى فإنّ الإصرار على اختصار الأولويات الأميركية في المنطقة بإعادة إحياء الملف النووي هو إمعان في اعتماد نظرة قاصرة للسياسة الخارجية الأميركية، ولقدرة الدولة العميقة على تغيير خياراتها وفقاً للمتغيّرات المستجدّة. لقد أظهرت كثافة المشاركات الأمنية الأميركية في المنتديات الدولية مدى الثقل الأمني في القرار الأميركي، وبهذا المعنى يمكن قراءة حجم التّحديات التي تستشعرها الإدارة الجديدة على دور الولايات المتّحدة كقوة عظمى وحيدة قاطرة للعالم منذ انهيار الإتّحاد السوفياتي، كما يمكن الذهاب إلى أبعد الحدود في تخيّل الأعمال والإجراءات الممكنة والخارجة عن المألوف التي قد تعتمدها الإدارة الجديدة لإنقاذ مجدها المهدّد.
تستند المناورة الدبلوماسية الأميركية الى معلومات إستخباراتية تضمّنتها «وثيقة مثيرة للقلق» تقدّمت بها مديرة الإستخبارات الوطنية «أفريل هينز» ومدير وكالة المخابرات المركزية «وليام ج. بيرنز» في 14 نيسان المنصرم حول التحوّل الجيوسياسي العصري الذي تشهده الصين بعيداً عن الولايات المتّحدة واستعدادها لخوض الحروب في الفضاء والبحر والبر، والتهديد المتزايد الذي تشكّله روسيا من خلال منظومات الأسلحة الجديدة، واستعداد إيران الدائم لتحمّل المخاطر وتصعيد التوتر في الشرق الأوسط، إلى جانب كوريا الشمالية التي ستشكّل تهديداً بأسلحة الدمار الشامل في المستقبل المنظور. تعتبر هذه الوثيقة أنّ اندفاعة بايدن في الـ100 يوم الأولى للعودة إلى الاتّفاق النووي أمر منطقي، لكنّ ذلك لا يختصر سياسة أميركا تجاه إيران، بل يتعيّن على الرئيس أن يرتقي بالتفكير أكثر من ذلك، بالضغط على نظام البلطجة في إيران الذي لا يحظى بشعبية في الداخل وهو موضع خشية في الخارج.
كما تنظر الوثيقة بقلق إلى نقل روسيا قواتها بشكل استفزازي إلى الحدود الأوكرانية، وإلى الإتصالات السريّة بين المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة مع إيران، وترى أنّ بايدن بحاجة خلال الأيام المئة يوم التالية إلى استراتيجية أكثر وضوحاً لنشر قواته، وذلك لا يعني بداية جديدة «لحروب لا نهاية لها»، بل العمل بشكل أفضل مع الدول المستعدّة للقتال من أجل مصالحها.
قد لا تُعبّر هذه الاندفاعة الدبلوماسية الأميركية عن قدرة على تلقف واستيعاب كلّ الملفات وإرضاء كلّ الحلفاء الجديين، أكثر مما تعبّر عن محاولة لالتقاط الأنفاس في عالم متغيّر يدفع بالولايات المتّحدة نحو التهميش. وما يجعل المهمة الأميركية أكثر صعوبة هو إكتساب وإتقان عدد كبير من حلفاء الولايات المتّحدة وخصومها لدبلوماسية المصالح والألترابراغماتية والخبث وتمرير الوقت. هذا ما صيغت على أساسه إتّفاقات التطبيع مع إسرائيل، وهو ما يقف الآن خلف اللقاءات الإيرانية السعودية كخيار بديل عن رفض الولايات المتّحدة سقوط الحوثيين في اليمن، ووراء التسليم الإسرائيلي بتجديد الإتّفاق النووي دون التخلي عن الضربات في العمق السوري للمواقع الإيرانية.
إنّ عودة المفاوضات اللبنانية الإسرائيلية غير المباشرة برعاية أميركية هي جزء من المشهد الجديد للإندفاعة الدبلوماسية الأميركية نحو المنطقة، قبل أن تكون حاجة لبنانية أو إسرائيلية أو جزءاً من أمن الطاقة الإقليمي، وهي في الوقت عيّنه عملية فرز ميدانية للخصوم والحلفاء.
لقد أظهرت التجربة التي رافقت المسار السياسي لانطلاق المفاوضات/ الإطار براغماتية لبنانية ذات مصلحيّة ضيقة (رئاسية أو تجنباً للعقوبات) لم تستطع أن ترقى إلى مستوى المصلحة الوطنية، وهذا ما عبّر عنه الخلاف الذي لا ينتهي حول تعديل المرسوم 6433. إنّ البراغماتية اللبنانية المنشودة يجب أن تتّسق مع البراغماتية الأميركية الجديدة بمعنى الأخذ بعين الإعتبار الإمكانيات المتاحة للمواجهة في حال إنسحاب الوسيط الأميركي من المفاوضات أو إعتماد العدو الإسرائيلي الخط 310، وقدرات منع العدو من استخراج النفط والغاز، وما هي إحتمالات الذهاب إلى التحكيم الدولي وما هي فرص النجاح والوقت المتاح وكلفة كلّ ذلك.
فهل ترتقي البراغماتية اللبنانية إلى مستوى المصلحة الوطنية أم يستمر القيّمون على القرار اللبناني بالرضوخ لدبلوماسية الإملاء أو دبلوماسية الإستدعاء التي اعتمدتها موسكو مؤخراً؟
* مدير المنتدى الإقليمي للدراسات والإستشارات