سريعاً، تجاوز العدو سياسة اللامبالاة حيال مطالب لبنان. بعد المعادلة التي فرضها حزب الله على كيان العدو، ومن خلاله على الولايات المتحدة، صارت القيادة الإسرائيلية معنية بالمبادرة إلى خطوات عملية خلافاً لكل المماطلة المستمرة خلال 12 عاماً من المفاوضات. والسبب خشية العدو من أن ترفع المقاومة من مستوى رسائلها العملياتية. على هذه الخلفية، أتى إبلاغ رئيس وزراء العدو يائير لابيد الوسيط الأميركي عاموس هوكشتين، على هامش زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للقدس المحتلة الأسبوع الماضي، بأنه «معني بالتوصل إلى اتفاق في أقرب وقت ممكن»، كما نقل عدد من التقارير الإعلامية الإسرائيلية، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أن تل أبيب وافقت على التسليم بكامل حقوق لبنان المائية والغازية.
في المقابل، يؤشر موقف لابيد وتعمّد الكشف عنه، أيضاً، إلى تسليم قيادة العدو بأن قرار حزب الله التصدي للاعتداء على حقوق لبنان نهائي ولا رجعه عنه. كما يظهر رغبة إسرائيل في تجنب استفزاز للمقاومة من خلال التأكيد على سلوك مسار المفاوضات الحثيثة (في أقرب وقت ممكن) في محاولة لتجنب تلقي رسالة عملياتية ثانية من المقاومة، يرجح أن تكون أكثر وقعاً وتأثيراً، إذا ما لمست أن هناك إصراراً على مواصلة سياسة المماطلة.
ومن أهم العناصر التي ساهمت في تسريع هذا المسار تحديد حزب الله سقفاً زمنياً يُمنع تجاوزه. هذا المستجدّ كان له وقع الصدمة على مؤسسة القرار في كيان العدو فوجدت نفسها مدفوعة إلى اتخاذ قرار باستنفاد الخيارات البديلة خلال الفترة الفاصلة، على أمل أن يساهم ذلك في التوصل إلى صيغة ما تجنّب إسرائيل المواجهة العسكرية، خصوصاً بعد المواقف الحاسمة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والتي حضرت بقوة على طاولة مؤسسات التقدير والقرار السياسي والأمني في كيان العدو.
بالتوازي، تحاول إسرائيل أن تبدو أيضاً كمن ينتهج خيار المفاوضات، بمعزل عن أي عوامل ضغط أو أن يكون ذلك نتيجة حرصها على تجنب المواجهة العسكرية مع المقاومة. ولذلك، كان موقفها بأن لبنان يمكن أن يربح من تطوير حقول الغاز الطبيعي «فقط بواسطة مفاوضات (التي) نأمل بأن تنتهي قريباً». ويستند هذا التكتيك السياسي إلى إدراك تداعيات أن تُنسب إلى المقاومة وضغطها الإنجازات التي يتوقع أن يحققها لبنان، بفك الحظر عن عمليات التنقيب واستخراج ثرواته الطبيعية. ولذلك، سنشهد لاحقاً تكثيفاً لدعاية زائفة تحاول الترويج بأن لبنان يمكن أن يحصل على حقوقه عبر المفاوضات، أو عبر المساعي الأميركية، من دون الحاجة إلى المقاومة. مع تجاهل حقيقة أن لبنان يفاوض منذ نحو 12 عاماً، والتغافل عن كل تجارب المفاوضات التي خاضتها أطراف عربية مع العدو الإسرائيلي خلال العقود الماضية.
ويتشارك مع الإسرائيلي في قلقه، أيضاً، خصوم المقاومة في الساحتين اللبنانية والإقليمية، لأن أي إنجازات تتحقق عبر المفاوضات بالاستناد إلى قوة المقاومة ستُقوِّض كل دعايتهم المضادة. ويبدو أن ملامح هذه الدعاية بدأت تلوح ملامحها في الخطاب السياسي المعادي للمقاومة.
وفي ما يتعلق بالظروف السياسية الداخلية، فرض الموضوع اللبناني نفسه كتحد داهم على مؤسسات القرار، وتحديداً على لابيد الذي سيشكل تعامله مع هذا الملف اختباراً جدياً لمؤهلاته القيادية. ولذلك، عمد إلى خطوة استعراضية بالتحليق بالمروحية فوق حقل كاريش وتوَّجَ ذلك بسلسلة من المواقف.
في كل الأحوال، تؤكد تجارب العديد من الأطراف العربية والمعرفة الدقيقة بأطماع الكيان واستراتيجيته في الساحة اللبنانية على ضرورة التعامل بمزيد من الحذر إزاء أي خطوات ومواقف يعلنها قادة العدو. والأمر نفسه ينطبق أيضاً على الولايات المتحدة، المسؤولة الأولى عن منع لبنان من الاستفادة من ثرواته الطبيعية للخروج من المأزق الذي يعاني منه. ومع أن هوكشتين أبلغ وزيرة الطاقة الإسرائيلية كارين الهرار بأنه «متفائل حيال فرص التوصل إلى اتفاق في المستقبل القريب»، إلا أن تقارير إعلامية إسرائيلية أكدت أنه حتى الساعة «لا يوجد اختراق مهم». ولفتت أيضاً إلى أن هوكشتين لم يُقدِّم خلال زيارته الأخيرة إلى إسرائيل أي مقترح جديد، ولم يضع مسودة اتفاق على الطاولة. وضمن هذا الإطار، توقَّع مسؤولون إسرائيليون أن يصل هوكشتين إلى بيروت في الأسبوعين القريبين لإجراء جولة محادثات إضافية، ما يؤشر إلى أن السيناريوهات لا تزال مفتوحة على كل الاحتمالات.
بالتوازي مع هذه المواقف، تناولت «يديعوت أحرونوت»، أمس، بعضاً من تداعيات رسائل الأمين العام لحزب الله والسقوف الزمنية التي فرضها، وانعكاسها في الغرف المغلقة. وأكدت أن الأجهزة الأمنية تأخذ تهديدات السيد نصر الله بجدية كبيرة. ولذلك، جرت في الأيام الماضية نقاشات حساسة شارك فيها رئيس الحكومة ووزير الأمن ورئيس الأركان وآخرون، حول «إمكانية رد حزب الله ولاحقاً رد إسرائيل المحتمل». وتوسَّعت التقديرات وصولاً إلى مناقشة الخيارات العملياتية التي يمكن أن يقدم عليها حزب الله: «مهاجمة المنصة بمسيّرات متفجرة، وإرسال غواصين أو إرسال مسيّرات أخرى لجمع المعلومات».
ونتيجة قناعة راسخة بأن حزب الله لن يكتفي بالمسيَّرات الثلاث غير المسلحة التي أرسلها فوق «كاريش»، في حال لم تُلبّ المطالب اللبنانية، بحثت الجهات المختصة أيضاً، ما ينبغي على إسرائيل أن تقوم به في المرة المقبلة. ولفتت التقارير إلى وجود تباين في التقدير والتوصيات حول الخيار الواجب اعتماده نتيجة المخاطر التي يمكن أن تترتب على ذلك.
وفي موقف يعكس إقراراً بفعالية الردع العملياتي لحزب الله، تدارست الجهات العسكرية طبيعة الرد الإسرائيلي وحجمه على أي عملية جديدة لحزب الله بما لا يدفع الطرفين إلى خوض أيام قتالية وصولاً إلى تدهور واسع. وتم في هذا الإطار مناقشة عدة أهداف قد لا تدفع حزب الله إلى رد مضاد وقاسٍ!.
كل ذلك يعود، كما نقلت «يديعوت»، إلى أن السيد نصر الله «تسلق شجرة عالية وسيكون من الصعب عليه النزول عنها من دون فعل أي شيء»، في إشارة إلى تحقيق إنجازات فعلية للبنان. لكن ما ينبغي تصويبه في المفهوم المتداول إسرائيلياً، أن المسألة ليست كذلك، وإنما هي التزام من المقاومة بـ«تحرير» ثروات لبنان من الحظر الأميركي، وحمايتها من الأطماع الإسرائيلية والاستفادة منها بما يؤدي إلى إنقاذ لبنان. ولذلك ألزمت نفسها بخيار استراتيجي وعملياتي جاهرت به علناً وذهبت فيه إلى أقصى الحدود، ولن تتراجع عنه إلا بعد تحقيق الأهداف المرجوة منه. ومن ضمن ما يخدم فيه هذا الالتزام الحاسم والعلني والمسقوف زمنياً، أنه يُقلِّص هامش المناورة لدى العدو، ويُبدِّد أي رهانات لديه على أي أوهام أو فرضيات تحضر في وعيه. كما من أبرز نتائج هذا الالتزام إجبار الأطراف على تسريع وتيرة المباحثات ما يختصر الزمن ويمنع مواصلتها بلا أفق زمني. ويضع إطاراً ملزماً لنتائجها وهو استفادة لبنان من ثرواته.
في الخلاصة، يتأكد مرة بعد أخرى، عمق حضور قوة ردع حزب الله في الغرف المغلقة داخل أروقة التقدير والقرار في كيان العدو. وبالاستناد إليه، وجدت إسرائيل نفسها مضطرة إلى البحث بين خيارات ينطوي كل منها على مخاطر بمستوى أو بآخر، وعليها أن تختار بينها.