بمقدار ما أوحَت به المواقف والتسريبات الخاصة بعودة قريبة للوسيط الاميركي عاموس هوكشتاين المكلف ملف ترسيم الحدود البحرية الى بيروت حاملاً الرد الاسرائيلي على الطرح اللبناني الاخير من أجواء إيجابية، بمقدار ما ارتفعت المخاوف من إمكان وقوع لبنان في الفخ مرة اخرى. ومردّ ذلك الى المخاوف من حدة المواجهة الاقليمية والدولية. وهو ما يستدعي التنبّه الى جملة من المخاطر التي تعوق التفاهم على خطط الترسيم، فينام الملف مرة أخرى.
بعد التسريبات عن لقاءات السفيرة الاميركية في بيروت دوروثي شيا وما كشفت عنه في اكثر من مناسبة، والتي تلاقَت مع بيانات وزارة الخارجية والناطق الرسمي باسمها تلاحقت المواقف الايجابية في شأن عودة هوكشتاين إلى بيروت قبل نهاية الشهر الجاري وهناك من توقّع الزيارة في 31 منه.
وإن كان من الطبيعي أن ينقل هوكشتاين الجواب الاسرائيلي على الطرح اللبناني الأخير الذي تسلّمه في زيارته الاخيرة، والقاضي بتعديل خطه المتعرّج عند الجزء الجنوبي من «حقل قانا» واعادة الخط مباشراً في البلوكين 9 و8، فإنّ المعلومات لم تُشر الى طبيعة الرد الاسرائيلي ان كان ايجابيا ام لا، وان كانت لديه شروط محددة. فالمعلومات النادرة من تل أبيب لم تشر بعد إلى اي معطيات بهذا الشأن حتى ان التقارير الدولية التي كانت تصدر من هناك كانت توحي بكثير ممّا هو مفقود اليوم.
وعليه، فإنّ ذلك يستدعي الحذر اكثر من اي وقت مضى، وهو ما رَدّته المراجع الديبلوماسية إلى عدة أسباب، منها:
– الخوف من المزايدات الداخلية الاسرائيلية بين المتنافسين في الانتخابات النيابية المقررة في مطلع الخريف المقبل، سواء بين المجموعات السياسية التي تضمها الحكومة الحالية أو تلك التي تدعم عودة الرئيس السابق للحكومة بنيامين نتنياهو الذي ينتظر رئيس الحكومة يائير لابيد ووزير دفاعه بيني غانتس «على الكوع». وكل ذلك يجري على رغم من انّ لكل منهما موقفاً متناقضاً من ضرورة تقديم الحل التفاوضي الذي يقوده هوكشتاين كما يعتقد لابيد، وضرورة استخدام اي وسيلة أخرى يقترحها غانتس.
– ضرورة التنبّه إلى انّ تريّث اسرائيل في تقديم أجوبتها والمماطلة في تسليمها لهوكشتاين، سمح لـ«حزب الله» بالدخول على خط المفاوضات بمُسيّراته التي تَحكّمت الى درجة ما بالموقف الاسرائيلي لجهة النية بعدم اعطاء خطوة الحزب اي اهمية تنعكس على الموقف النهائي من عملية الترسيم. فالطرفان يُدركان مخاطر اللجوء إلى القوة في هذه المرحلة التي لم يتمكن العالم بأجمعه من وضع حد للغزو الروسي لأوكرانيا وتطويق تداعياته أو لجهة البَت بالترتيبات التي تسمح لتل أبيب بالمباشرة ببَيع إنتاجها من حقل كاريش ومحيطه مطلع الخريف المقبل، سواء الى اوروبا أو دول اخرى في حاجة الى التعويض عن المفقود من الإنتاج الروسي.
– المخاوف الجدية من سيناريو يسمح للمماطلة في البَت بالخطوات النهائية لترسيم الخط النهائي لحسابات اخرى تسمح بإبقاء الملف مفتوحاً على مساحة المفاوضات الدولية والاقليمية وهو ما يمكن استخدامه من الجانب الاسرائيلي، كما الايراني، في مفاوضاتهما المعقدة على اكثر من مستوى. فالورقة اللبنانية ما زالت صالحة للتلاعب بها بعيداً من مصالح الطرفين الحيوية، خصوصاً إن تقرر إبقاء الساحة اللبنانية مسرحا وحيدا لها بالإضافة الى الساحة السورية حيث رفعت اسرائيل من وتيرة عملياتها في محيط دمشق والمنطقة الساحلية السورية الشمالية.
على هذه الخلفيات، ولأسباب اخرى متفاوتة، فإنّ المخاوف على مصير مهمة الوسيط الاميركي ما زالت في محلها، فالمؤشرات المرتبطة بتعقيدات ملف تمويل صندوق البنك الدولي لعملية استجرار الغاز المصري والكهرباء الاردنية الى لبنان عبر الأراضي السورية تُنبىء بالتريّث الاميركي في البَت بالملفين معاً. وهي خطوة تم ربطها بانتظار ما ستُسفر عنه الطَحشة الاميركية التي قادها الرئيس جو بايدن في منطقة الشرق الأوسط خلال زيارته الاخيرة من تل ابيب الى الاراضي الفلسطينية المحتلة فالمملكة العربية السعودية والقمة الشاملة التي عقدت في جدة. وما عزّز هذا الاعتقاد سقوط المواعيد التي حددت للانتهاء من مشروع الغاز المصري والكهرباء الأردنية التي تدحرجت حسب ما أنجَزته وزارة الطاقة اللبنانية من تفاهمات واتفاقات ثنائية بين بيروت والقاهرة وعمان، قبل التفاهم على مستوى المديرين العامّين بين الاطراف الاربعة السوري والمصري والأردني واللبناني. وهي تزامنت مع مضمون البيانات المصرية والأردنية التي رجّحت التفاهم النهائي على الصفقة من مطلع آذار الماضي إلى نهاية نيسان فحزيران، وآخرها تحديد موعد لا يتجاوز منتصف آب المقبل وهي مواعيد انهارت واحدة تلو الاخرى من دون اي مبرر منطقي.
والى هذه المؤشرات، فإنّ السباق ما زال قائما بين مجموعة من الخيارات، منها من يتحدث عن عدم وجود اي تعديل على خريطة الطريق التي توقعها الجانب الاميركي فور تسلّمه موقفا لبنانيا موحدا في نهاية حزيران الماضي. – وبمعزل عما تسببت به مسيّرات «حزب الله» فوق المنطقة الاقتصادية الاسرائيلية – فقد تحدث عن اتفاق مبدئي قد يصل إليه نهاية الشهر الجاري وسبق ان تحدث عنه وزير الخارجية اللبناني عبدالله بوحبيب ايضاً عقب لقاءاته مع السفيرة الاميركية وهوكشتاين نفسه. وهو موعد سيؤدي حتماً الى احياء المفاوضات بين لبنان واسرائيل ـ وليس ضرورياً ان تتم عبر مقر القوات الدولية في الناقورة – لتوقيع التفاهم النهائي في ايلول المقبل ليتزامن هذا الإنجاز وبدء تصدير الغاز الاسرائيلي في التوقيت الأمني والتجاري الاكثر أمناً واستقراراً من حقل كاريش في اتجاه المنشآت البرية على الساحل الفلسطيني المحتل ومحطة التغويز المصرية في دمياط قبل توريده الى أوروبا عبر الخط المصري ـ الإسرائيلي – القبرصي.
على هذه المعطيات المتشابكة نسجت الاجواء المترددة على اكثر من مستوى لجهة فشل كل المساعي المبذولة لإقفال هذا الملف او بالعكس. وفي حال النجاح سينتقل العمل الى مرحلة الاستكشاف في لبنان والإنتاج الحقيقي في اسرائيل، وهي حالات ما زالت تتأرجح بين هبّة ساخنة واخرى باردة في انتظار ان يحسمها الوسيط الاميركي سلباً أم ايجاباً على قاعدة التأكيدات الأميركية بأنه سيواصل العمل مع لبنان واسرائيل كما أكّد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس قبل يومين، عندما شدّد بعد ترحيب بلاده «بالحوار البنّاء، وبالتقدم الذي تم إحرازه»، على العمل «ما في وسعنا، وسيفعل هوكشتاين كلّ ما في وسعه لدعم ذلك ودَفعه إلى الأمام».
وعليه، طرح السؤال: هل يكفي الإعلان عن النيات الاميركية لننتظر النهايات السعيدة في ملف معقّد الى هذه الدرجة، بَدل القيام بالمساعي التي تثبت حق الطرفين في مواردهما وثرواتهما لإقفال باب المزايدات القائمة بينهما والتوجه الى حل قانوني وعادل بما تكفله قوانين البحار والمحاكم الدولية يُرضي الجميع في آن؟