مساء الخميس الثالث عشر من تشرين الأول ٢٠٢٢ أطلّ رئيس الجمهورية ميشال عون من شاشات التلفزيون ليزفّ الى اللبنانيين إنجاز الاتفاق على ترسيم الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، بعد مفاوضات أدارتها الإدارة الأميركية عبر أكثر من وسيط و لتستقر في النهاية عند الوسيط هوكشتاين.
بدا الرئيس وهو يزفُّ البشرى للبنانيين مغتبطاً بما تم إنجازه معتبراً ان الاتفاق حفظ للبنان حقوقه، ولم ينسَ أن يكيل المديح لمن ساهم في إيصال هذا الملف الى نهايته «السعيدة». وكان لافتاً في رسالته تركيزه على دور وزارة الطاقة منذ أصبحت من حصة تياره السياسي في كل تشكيلة حكومية كان مشاركاً فيها، ومركّزاً بشكل خاص على صهره النائب جبران باسيل والذي يشغل الآن موقع رئاسة «التيار الوطني الحر»، وفي السياق العام عرّج على من ساعد في إنجاز الاتفاق وخاصة الإدارة الأميركية ممثلة برئيسها ووسطائها.
هذا الترسيم الذي هو الآن مدار سجال سياسي حول ما إذا كان الاتفاق هو إنجاز عظيم ويندرج ضمن «الانتصارات»، أم أنه انطوى على تنازلات عن حق سيادي، كما ان الاتفاق هو موضوع جدل حول مركزه القانوني، وما إذا كان يقع تحت وصفه بالاتفاقية، أو المعاهدة أو التفاهم، ولكل واحدةٍ من هذه التوصيفات مقوماتها وسياقاتها الواجب سلوكها في الدوائر الوطنية والدولية ذات الصلة. كما لا يخفى ان آثاراً اقتصادية ستترتب على نفاذ هذا الترسيم بحكم ان المرتكز الأساسي لإبرامه يكمن في استخراج النفط والغاز في باطن الأرض المشمولة باتفاقية الترسيم.
وعليه فإننا سنقارب هذا الموضوع من خلال قراءة أبعاده القانونية والسياسية والاقتصادية.
ان أميركا أعلنت بعد احتلال العراق ان المنطقة ستدخل عصراً سياسيا جديداً، كما أعلنت أيضاً بأن حرب ٢٠٠٦ ستسرّع في ولادة النظام الاقليمي الجديد. وعندما تتكلم أميركا عن ولادة هذا النظام الاقليمي الجديد، فإنما تضع في اعتبارها إدخال مكوناته الأساسية غير العربية في عملية تشكيل هذا النظام، من الكيان الصهيوني الى إيران وتركيا ومعهم أثيوبيا من بوابة الأمن المائي. وهذا ما يتطلب تسهيل العبور الصهيوني والإيراني والتركي الى العمق العربي، وتمكين هذه الأطراف من الجلوس على طاولة الترتيبات السياسية للأزمات المتفجرة في المنطقة أو تلك التي يدور صراع عليها.
على هذا الأساس سهّلت أميركا لإيران الدخول الى العراق وممارسة احتلالاً له من الباطن، ومن ثم التغوّل في العمق القومي بالاتكاء على دور أذرع عسكرية سياسية وأبرزهما حزب الله في لبنان والحركة الحوثية في اليمن، كما عملت على تمكين الكيان الصهيوني من اختراق العمق القومي من بوابة التطبيع مع بعض الأنظمة العربية، ووفرت تغطية للدور التركي ليلعب دور الرافعة السياسية لحركة الاخوان المسلمين في العديد من الاقطار العربية. بذلك أصبحت إيران على تماس مباشر مع أميركا في العراق، وعلى تماس مباشر مع الكيان الصهيوني من خلال علاقاتها مع بعض الفصائل الفلسطينية وحزب الله. وهذا ما أعطى لإيران ورقة عملت على توظيفها في سياق مشروعها الخاص وعبر تقديم نفسها أحد اللاعبين الاقليميين الأساسيين في ترتيبات الحلول في المنطقة. وكانت أولى نتائج هذا التوظيف هو الاتفاق على الملف النووي العام ٢٠١٥ والذي تجري المفاوضات حالياً لإعادة إحيائه بعدما ألغاه الرئيس الأميركي السابق من جانب واحد.
ان هذا الاستطراد حول هذه المسألة، ولو أعتقد البعض انها من خارج سياق الموضوع، إلا انها تندرج في صلبه، لأن أميركا التي تعمل لتشكيل النظام الاقليمي الجديد، تدرك جيداً أن تنفيذه يتطلب تطبيعاً «رسمياً عربياً – صهيونياً», وتطبيعاً إيرانياً – صهيونياً، وإعادة الحرارة للعلاقات التركية – الصهيونية. وهذه المسارات الثلاث يبرز مشترك واحد فيها هو الكيان الصهيوني.
وإذا كانت أميركا وإيران تدخلان مباشرة تارةً بالواسطة، تارةً أخرى في اشتباك سياسي ظاهري في العراق لخلاف على حجم الدور والحصص، وهو ما كان وراء الانسداد السياسي لعملية استيلاد سلطة جديدة بعد مرور سنة على انتخابات نيابية شهدت مقاطعة شعبية واسعة، فإن الحالة ذاتها تستحضر في إدارة الملفات السياسية والاقتصادية والعسكرية المتعلقة بالواقع المحيط بالساحة اللبنانية، وملف ترسيم الحدود البحرية واحد منها، باعتبار ان إيران لم تغب لحظة عن كواليس هذا الملف عبر الدور الذي لعبه حزب الله في التحكم بمسار المفاوضات بشكل غير مباشر. وعليه فإن دور إيران كطرف غير منظور في مفاوضات الترسيم كان مقروءاً في ما أسفرت عنه النتائج. ولذلك لم يكن مصادفة أن يعلن عن اتفاقية الترسيم في نفس الوقت التي ولدت فيها تشكيلة سلطة جديدة في العراق. فمقابل التنازلات التي قدّمها الجانب اللبناني وبموافقة حزب الله، تمكنّ الكيان الصهيوني من الحصول على ضمانات أمنية وتوسيع مساحة التنقيب العائدة له، وحصلت إيران على ترجيح كفّة تشكيلاتها السياسية والأمنية والعسكرية في العراق عبر استيلاد تشكيلة سلطوية جديدة أنهت الانسداد السياسي، ومكّن القوى المرتبطة بمركز التوجيه والتحكم الإيراني من الإمساك بناصية القرار السياسي بكل ما يتعلق بإدارة العملية السياسية. كما ان إيران منحت «بونس مالي»، بالافراج عن سبعة مليارات دولار أميركي من الأموال المحتجزة في البنوك الغربية.
ان أميركا التي أدارت ملف المفاوضات بدت متحمسة للوصول به الى مآلاته النهائية وهي التي لم تكن متسرّعة في السابق، وإنما بسبب ضرورات الحرب في الشرق الأوروبي، والسعي لتأمين بديل للغاز والنفط الروسيين لأوروبا، مارست ضغطاً على الأطراف المفاوضة، ونظمت مقايضة لتنازلات متقابلة في ساحة كل طرف يعتبر انها تحتل أولوية له. من هنا حصلت أميركا على إيجاد بيئة آمنة لاستخراج النفط والغاز من شرق المتوسط خدمة لهدف استراتيجي متعلق بالحرب الروسية – الأوكرانية والذي على ضوء نتائجه سترتسم معالم نظام جديد على مستوى العلاقات الدولية، كما رعت عملية تطبيع ولو غير مباشرة بين إيران والكيان الصهيوني من خلال صفقة التنازلات المتقابلة، هذا الى ان ثمة تطبيع اقتصادي ولو كان غير مباشر أيضاً سيصبح أمراً واقعاً بين لبنان والكيان الصهيوني، ولبنان الذي يعاني من اختناق اقتصادي وانسداد سياسي وتدهور مريع في مستوى المعيشة فتحت أمامه نافذة أمل باستخراج النفط والغاز من المنطقة التي خرجت من حصته وهي دون حصته التي كانت ستعود إليه لو لم يقدم تنازلات بينية التي تثبتها الوقائع الدامغة.
في التنازلات التي قدّمها الجانب اللبناني وانعكاساتها الاقتصادية
ان الذين يروّجون لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية سواء من هم في واجهة المشهد أو من هم خلف الستارة، يعتبرون ان الاتفاقية هي إنجاز عظيم وهي انتصار تاريخي للبنان، وهذا ما بدا واضحاً في رسالة رئيس الجمهورية عشية الإعلان عن التوصل الى الاتفاق، كما في إشادة من هم خلف الستارة بهذا الاتفاق. وحتى لا يبدو الأمر وكأنه يدخل في إطار المناكفة السياسية وبعيداً عن المقاربة السياسية الشعبوية، لا يسعنا إلا أن نرد على من يعتبر الاتفاقية هي انتصار للبنان بالوقائع التي لا تترك مجالاً للشك بأن لبنان خرج خاسراً من هذه الاتفاقية وطنياً وسياسياً واقتصادياً، ولا يغيّر من حجم هذه الخسارة حصول لبنان على بعض المنافع الاقتصادية من خلال ما خرج به من حصة يبقى الخوف قائماً ومشروعاً من نهبها وسرقتها إسوة بالمال العام الذي نُهب وأوصل البلد الى الانهيار شبه الشامل.
الخسارة في بُعدها الوطني
ان الاتفاقية التي تم بالاستناد إليها ترسيم الحدود البحرية، اعتمدت الخط ٢٣ كخط ترتسم على أساسه الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، وهذا الخط الذي تبتهج السلطة اللبنانية بتثبيته كخط فاصل يقع جنوب الخط رقم (١) الذي يعتبره العدو الصهيوني خطاً فاصلاً، ثم جاء هوف ونزل بهذا الخط قليلاً باتجاه الجنوب وسمّي باسمه، وبعدها جاء المفاوض الأميركي الجديد ليعدّل من مسار خط هوف جنوباً قليلاً ويطرح الخط ٢٣ كخط فاصل.
ان السلطة اللبنانية تعتبر ان اعتماد الخط ٢٣ يعيد للبنان مساحة ٨٦٠ كلم٢، وهذا بنظرها مكسب كبير بحد ذاته. لكن السلطة اللبنانية وهي تغتبط لاعتماد هذا الخط تتجاهل ان الخط ٢٩ هو الخط الذي اعتمد سابقاً كخط فاصل لترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة وهذا موثق في اتفاقية الهدنة وفي المحضر الذي وقّع عليه لبنان والكيان الصهيوني بعد أشهر من اتفاق الهدنة.
ان اعتماد الخط ٢٣ لا يأخذ بعين الاعتبار أحكام قانون البحار الصادر العام ١٩٨٢ والذي يعتمد النقاط الثابتة على اليابسة للانطلاق منها لترسيم الخطوط البحرية. وهذا ما كان يفرض أن يعتمد رأس الناقورة كنقطة انطلاق لتحديد الاحداثيات وهو ما كان مأخوذ به يوم اعتبر الخط ٢٩ كخط ينطلق من رأس الناقورة باتجاه العمق المائي.
إن اسقاط الخط ٢٩ من حسابات الوفد اللبناني المفاوض وعدم اعتماده خطاً لترسيم الحدود أفقد لبنان ١٨٦٠ كلم٢ من مساحة مائية كانت بالأساس محتسبة من مساحته الجغرافية. وإن مساحة الـ٨٦٠ كلم٢ التي اعتبرت داخلة ضمن حدود السيادة الوطنية سنداً للخط ٢٣ لا تبرر التنازل عن ١٨٦٠ كلم٢ فيما لو اعتمد الخط ٢٩.
إن التنازل الأول انطوى على تنازل عن حق سيادي، وهو حق وطني ولا تملك السلطة السياسية التنازل عنه، لأن أمر البت به يعود للشعب وليس للسلطة. وللتذكير فقط فإن اتفاق ١٧ أيار اعتمد رأس الناقورة نقطة انطلاق لتحديد الاحداثيات واعتبر الخط ٢٩ أساساً لترسيم الحدود وبذلك يكون اتفاق ١٧ أيار أعطى للبنان أكثر مما أعطته اتفاقية ترسيم الحدود المائية.
أما التنازل الثاني، فإن الاتفاقية التي لم تعتمد رأس الناقورة نقطة الانطلاق لتحديد الاحداثيات، اعتمدت نقطة على الماء باتجاه الشمال وهذا كان رضوخاً للمطلب الصهيوني الذي استجابت له أميركا وأعطت «لإسرائيل» مدىً أوسع من السيطرة المائية بحجة تبديد المخاوف الأمنية لديها. وعندما تعتمد نقاط مائية لتحديد الاحداثيات فهذه النقاط لا يمكن الركون إليها لانها نقاط مائجة. ولهذا لم يعتمد قانون البحار النقاط البحرية عند ترسيم الحدود البحرية بين الدول. ويبدو ان السلطة اللبنانية لا تجد ضيراً من التنازل عن مساحات في المنطقة الاقتصادية البحرية، لأنها سلطة تفتقر الى مشروعيتها الوطنية. فهي كما تنازلت عن حق سيادي للبنان سنداً لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني سبق وتنازلت عن حق سيادي عند ترسيم البحرية مع قبرص، فعمدت الى تقاسم المنطقة الاقتصادية مناصفة في حقل افروديت، فيما قانون البحار يعتبر ان حصص الدول من المناطق الاقتصادية في عمق البحار تكون بنسبة طول شواطئ الدول المحاذية. وبما ان الشاطئ اللبناني أطول من الشط القبرصي، فكان يفترض أن تكون حصة لبنان في البلوكات البحرية أكبر من الحصة القبرصية.
وهنا يطرح التساؤل: لماذا تفرط السلطة بحقوق وطنية؟ ان الجواب هو أن المنظومة السلطوية التي تدير البلاد على أساس المحاصصة والسمسرة والرشى تفتقر الى صدقية الالتزام الوطني، وعليه ليس مستغرباً على هكذا منظومة سلطوية بكل أطرافها التفريط بحق وطني مقابل مغانم فئوية! ولهذا فإن رائحة الصفقات المشبوهة والسمسرة تشتم من كل تصرف تقدم عليه سلطة غارقة في الفساد حتى أذنيها. فمن يسرق المال العام يهون عليه بيع الحقوق الوطنية مقابل «ثلاثين من الفضة».
ان تنازل السلطة اللبنانية عن الخط ٢٩ وهو الذي يشطر حقل كاريش الى قسمين، جعل هذا الحقل يخرج من حصة الكيان الصهيوني، وأكثر من ذلك أعطى لدولة العدو جزءاً من مردود حقل قانا تدفعه له شركة توتال التي تتولى التنقيب والاستخراج من جعالتها. وإذا كانت التقديرات الأولية تشير الى ان المخزون الكبير هو في حقل كاريش، فلبنان والحالة هذه لا يكون قد خسر مساحة من المنطقة الاقتصادية في البحر وحسب، بل أيضاً يكون قد خسر مردوداً كبيراً من عائدات هذا الحقل الذي لم يعد منطقة متنازع عليها، بعدما أصبح بموجب الاتفاقية من حصة الكيان الصهيوني.
إذاً، بعيداً عن البروبغندا الإعلامية والترويج للانتصارات الوهمية فإن الخسارة في الجانب الاقتصادي باتت واضحة، كما التنازل عن حقوق وطنية، وان المقدمات التي سبقت اتفاقية الترسيم كانت تشير الى ان الأمور سائرة في هذا الاتجاه. ومن مؤشرات تلك المقدمات ، سحب ملف التفاوض من أيدي الجيش اللبناني الذي لم يتراجع عن تمسّكه بالخط ٢٩، وتسليم الملف لوفد سياسي اعتبر القبول بالخط ٢٣ مكسباً، وتبيّن ان خلفية هذا الموقف هو توجيه رسالة للوسيط الأميركي تقضي التنازل عن الخط ٢٩ مقابل رفع العقوبات عن صهر الرئيس، كي تصبح الطريق سالكة أمامه الى قصر بعبدا. لكن الأمور لم تسر في الاتجاه الذي كان يسعى إليه من استرد الملف من أيدي الجيش، لان القضية في ظل الأوضاع التي أملت توقيع الاتفاقية هي أكبر من معطى الوضع الداخلي والحسابات الخاصة لبعض أطرافه، ولهذا ذهبت للاستقرار عند القوى الدولية والاقليمية المشغّلة للأطراف الداخلية في عملية الصراع في الأمة العربية وعليها.
خلاصة
ان لبنان خرج خاسراً من هذه الاتفاقية ولو حصل على بعض من مردود مخزون النفط والغاز، والرابحون هم، أولاً، أميركا في توظيفها السياسي لغاز ونفط المتوسط في إطار الصراع الذي تديره في الحرب الروسية – الأوكرانية، وثانياً إيران التي قبضت ثمناً معجلاً في إعادة تعويم دورها في العراق باستيلاد سلطة جديدة تتحكم بمفاصلها وربما تقديمات أخرى وُعدت بها مقابل انخراطها في عملية التطبيع مع العدو من خلال ملف التفاوض على الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة، وثالثاً العدو الصهيوني الذي وسّع من المنطقة الاقتصادية التي يستغل ثرواتها في كامل حقل كاريش وحصة من حقل قانا، فضلاً عن اسقاط الخط ٢٩ الذي ينطلق من رأس الناقورة في تحديد الاحداثيات.
أمام كل هذا الواقع، كان على السلطة اللبنانية أن تصارح الشعب وتضع الحقائق أمامه كما هي، وليس وفق تصوراتها الافتراضية، لكن سلطة تفتقر الى الصدقية والمشروعية لا يمكن أن تصارح الشعب بالحقيقة لأن فاقد الشيء لا يعطيه.