في الكواليس السياسية والديبلوماسية همس حول احتمال ان تعود مفاوضات الترسيم الى نقطة الصفر بمعدل يتراوح بين 3 و97 % إن أصرّت إسرائيل على مطلبها الحصول على موافقة لبنانية لتغيير موقع النقطة «B1» فهي حلم اسرائيلي منذ العام 1982، ويقتضي تحقيقه امرا مستحيلا عندما يتصل الامر بتعديل دستوري يتناول قرارا بإعادة النظر بأمر سيادي يمس الحدود الدولية للبنان. فما الذي يقود الى هذه المعادلة؟
تزامناً مع ما رافق زيارة الوسيط الاميركي في مفاوضات ترسيم الحدود البحرية الجنوبية عاموس هوكشتاين الاخيرة من تفاؤل سبقها وتلاها حول مصير هذه المفاوضات، قلائل احتسبوا ان يعود الى بيروت الجمعة الماضي بمفاجأة ابتعدت عن البحث في الخطوط المتعرجة والمستقيمة المطروحة وحجم الاحواض والنقاط البحرية المرتبطة بها والانتقال الى البحث في الهم الأمني الذي يراود الاسرائيليين منذ سنوات عدة.
ومردّ هذه المفاجأة التي أجرت ربطا مفاجئا بين الترسيم البري والبحري ولو بخيط رفيع، ترجمته الاحداثيات الخاصة بالطفافات البحرية التي سلّمها هوكشتاين الى المسؤولين اللبنانيين بعد يومين على محادثاته في بيروت. وهو ما شكّل محاكاة مباشرة لمصيرها مما اوحى ببدء البحث في الضمانات الامنية التي تطالب بها إسرائيل وفي محاولة جدية لتكريس خط الطفافات التي نشرتها منذ انسحابها الأحادي الجانب من المناطق المحتلة في جنوب لبنان في 25 أيار عام 2000 تحت شعار تطبيق القرار 425. كما رفضت الدولة العبرية البحث في مصيرها طوال السنوات الـ22 التي تلت تلك العملية على اكثر من طاولة للمفاوضات. فهي بدأت سعيها الى تكريسه منذ ان انطلق البحث بالخط الأزرق المقترح من جانب القوات الدولية «اليونيفيل» في اعتباره «خطا خاصا بالانسحاب» ولا يتصل بمصير «خط الحدود الدولية» المكرّس في الأمم المتحدة منذ العام 1923 وأعيد تأكيده في ما عرف بـ«خط الهدنة» عام 1949، كما في اللقاءات التي عقدت على مستوى «اللقاء العسكري الثلاثي» التقليدي الذي يعقد في مقر القوات الدولية في الناقورة منذ صدور القرار 1701 في 12 آب العام 2006.
لم تكن هذه الملاحظات لتأريخ مرحلة ما زال النقاش دائرا فيها حول مسألة الحدود الجنوبية والنزاع مع اسرائيل فحسب، إنما لتأكيد ما يعنيه خط الطفافات البحرية من أهمية لدى الجانب الإسرائيلي وما يمكن ان يؤدي اعادة البحث فيه من انعكاسات على مصير المفاوضات الجارية للترسيم البحري بين المنطقتين الاقتصاديتين ومخاطر ان تتعقّد المفاوضات إن ربطت تل ابيب مصيرها بالتفاهم على هذا الخط المقترح من جانبها والذي ينطلق من النقطة «B1» البرية في رأس الناقورة. وهو خط استراتيجي بطول خمسة كيلومترات قبل ان ينحرف في اتجاه حدود المنطقة الاقتصادية بين الطرفين، وأن اي خطوة من هذا النوع ستفرض اعادة نظر بكل الخطوط البحرية المتداوَل بها منذ بدء المفاوضات، وقد تؤدي الى الاطاحة بكثير منها لمجرد اعتراف لبنان بهذا التعديل الذي يطاول احدى النقاط البرية الاكثر دقة وتأثيرا في ضمان حقوق لبنان من تلك المناطق، بريّة كانت ام بحرية.
ويروي احد المعنيين بأعمال الترسيم البرية والبحرية، والذي واكب الطرح الاسرائيلي للنقطة «B1»، ان تعديلها كان هدفا اسرائيليا استراتيجيا منذ العام 1982 تاريخ أول اجتياح للبنان قبل ان يحاول نقلها من حيث الحاجز الحديدي الذي كان للأمن العام على الحدود بين لبنان وفلسطين قبل الاحتلال الاسرائيلي نحو 30 مترا في اتجاه الشمال توغّلاً في الأراضي اللبنانية، وقبل ان يقفل النفق الخاص بخط القطار بين الدولتين في محاولة لحجب الرؤية المباشرة للمنطقة الفلسطينية المحتلة من نقطة هي الأقرب إليها على الخط الساحلي ومنع اي عمل امني محتمل عليها كما يعتقد الجانب الاسرائيلي. وهو أمر لا أهمية له إن تم النظر اليه من زاوية اخرى، فالمنطقة المطلوب حمايتها مكشوفة من مناطق لبنانية عدة على طول الحدود بين الدولتين وبنحو واضح ولا يمكن حجبها ابداً مهما ارتفع الحاجز الاسمنتي الذي بَنته اسرائيل في اكثر من منطقة.
ولذلك يضيف العارفون بكثير ممّا دار من مفاوضات مع اسرائيل في هذا الشأن، ان الجانب الاسرائيلي حاول غير مرة من دون جدوى، إدراج هذه النقطة كبند في مسار المفاوضات البرية قبل البحرية وضرورة التوافق على هذا التعديل المقترح الذي رفضه الجانب اللبناني أكثر من مرة لمجرد انه يفرض اعادة نظر بنقطة حدودية سيادية بالنسبة الى لبنان. وقد وصل الامر بالاسرائيليين في احدى جلسات المفاوضات حول الحدود البرية، وتحديدا أثناء ترسيم الخط الأزرق، حَدّ إبداء الاستعدادات لإجراء عملية تبادل بين البر والبحر وتسهيل التفاهمات الاخرى متى تجاوز النقاش الكيلومترات الخمسة التي تحتسب انطلاقا من تلك النقطة البرية. وقد كان الجانب اللبناني واضحا في كشف الاستراتيجية الاسرائيلية على قاعدة «أعطونا في الأمن والبر لتنالوا ما لم تتوقعوه يوماً في الاقتصاد والماء». فقد كانوا على استعداد في احدى جلسات التفاوض لاستبدال كل مترين بـ 400 كيلومتر في البحر.
ويكشف احد هؤلاء المطلعين انّ ما دفع الى التشدد اللبناني في موقفه الصلب من هذه النقطة بالذات أنّ الوسيط الاميركي السابق فريديريك هوف تجاهَل هذا المطلب الاسرائيلي عند اقتراحه خطه الذي تجاوزته المفاوضات الأخيرة وجعلته من التاريخ. وقد سقطت في حينه اقتراحات اخرى منها إقامة منطقة عازلة بعمق كيلومترات عدة في البحر اقترحها الجانب اللبناني.
وعليه، وبناء على ما تقدم، يعتقد العارفون انّ لبنان سيكون عاجزا عن القبول بالطرح الاخير، ذلك ان هناك من يعتقد ان اي تعديل على النقطة «B1» يستدعي برأي القانونيين تعديلا دستوريا يُعيد النظر في الحدود الدولية السيادية للبنان وعلى من يتحمّل مسؤولية مثل هذه الخطوة ان يرفع يده، فالمفاوضون العسكريون سبق لهم ان أكدوا عدم قدرتهم على تحمّل نتائج مثل هذه الخطوة لأنها يجب ان تكون نتاج قرار سياسي وسيادي. وإن أرادوها فهي تحتاج الى إجماع يقود الى طرح الموضوع على مجلس النواب والبَت به من باب تعديل الدستور. وعندها هل يمكن توقّع المدى الذي يمكن ان تأخذه المفاوضات لإنجاز عملية الترسيم خصوصاً ان أصرّ الجانب الاسرائيلي ومعه الوسيط الاميركي على معالجة الهم الامني؟ والّا فإنّ العودة الى نقطة الصفر قد تتحول امرا واقعا بدرجة تتراوح بين 3 و 97 % ان اعتقد الجميع انّ هوكشتاين قطع مسافة 97 % على الطريق الى الاتفاق النهائي، فمَن يضمن بقاء هذه المعادلة وعدم انقلابها بشكل معاكس؟.