سيتأنّى الفريق التقني اللبناني في دراسة كل عبارة ونقطة وفاصلة في نص اتفاق الترسيم، الوارد من الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين، لئلا يسقط لبنان في أي فخّ ينصبه الإسرائيليون. لكن الاتجاه اللبناني هو الموافقة.
لقد حصل لبنان على «أقصى ما يريد»، كما أعلن الإسرائيليون قبل أيام. وفي مفاوضات الناقورة كان سقف طموحاته التزام إسرائيل بالخط 23، فتحقق ذلك له تماماً، بل إنّه حصل على بقعة صغيرة إضافية خارج هذا الخط تشكّل استمراراً لحقل «قانا». وفي المبدأ، استطاع لبنان أن يمنع استخراج إسرائيل للغاز قبل أن يحصل على ضمان باستخراج موارده هو أيضاً.
على مدى 10 سنوات، فاوض اللبنانيون على الخط 23، وعلى خط الموفد الأميركي السابق فريدريك هوف الذي يوزع مساحة الـ 860 كيلومتراً مربعاً موضع الخلاف ضمن حدود تقارب الـ 60% للبنان مقابل 40% لإسرائيل. وسعى الإسرائيليون في الناقورة إلى تسويق هذه التسوية، مستغلين وضعية الانهيار التي يعيشها لبنان منذ 3 سنوات.
وهذا تحديداً ما أرادته حكومات بنيامين نتنياهو المتعاقبة بين عامي 2008 و2019. وهو أيضاً موقف الوسيط الأميركي الذي خلف هوف ديفيد ساترفيلد، بدءاً من العام 2018. لكن مشكلة لبنان الأساسية بدأت قبل انطلاق المفاوضات مع إسرائيل في العام 2012، والجولات المكوكية للوسطاء الأميركيين.
ففي العام 2002، أوكل لبنان إلى مركز «ساوثمسون» لعلوم المحيطات والمكتب الهيدروغرافي البريطاني، تحضير دراسة تحدّد خط الحقوق اللبنانية في المياه. ولأنّ نتائج هذه الدراسة لم تكن دقيقة، أُعيد توكيل المكتب بإجراء دراسة ثانية بعد 4 سنوات، لكن النتائج بقيت إيّاها تقريباً. وبعد ذلك، سكت المسؤولون على الأمر، ولم يتخذوا إجراء أكثر جدّية وفاعلية لإظهار الحدود.
ولذلك، وإذ لم تكن في أيدي اللبنانيين وثائق فاعلة لثبيت خط الحدود المناسب، ذهب لبنان في العام التالي إلى مفاوضات مع قبرص انتهت بتوقيع اتفاق يعتمد الخط 23. وفي العام 2011، عقدت قبرص اتفاق ترسيم مع إسرائيل على أساس هذا الخط.
وهكذا، وبطريقة يمكن وصفها بمزيج من الإهمال والعجز وقصر النظر، أصبح الخط 23 ملزماً للبنان دولياً، ولو أنّه غير دقيق أساساً، بشهادات التقنيين والجيش اللبناني الذي زوَّد المفاوض اللبناني دراسة تثبت أنّ حقوق لبنان تبلغ الخط 29.
مارس اللبنانيون ضغوطاً في المفاوضات لاعتماد هذا الخط، لكنها سرعان ما انتهت. وخرج المسؤولون اللبنانيون بفرضية أنّ الخط 29 كان خطاً تفاوضياً لا خطّ ترسيم. فالجانب اللبناني كان أضعف من المطالبة بالخط 29، ولو كان يمتلك المشروعية الحقوقية في ذلك.
عملياً، ما حصل اليوم هو أنّ إسرائيل أعطت لبنان «من كيسِه»، أي جرت مقاسمته على البقعة التي هي حقُّه أساساً، والتي تنتهي في النقطة 29، وتضمّ حقل «كاريش» بكامله. ووجدت إسرائيل أنّ لبنان سهَّل عليها المهمَّة باعترافه المسبق بالخط 23، ثم بتحديد هذا الخط إطاراً لانطلاق المفاوضات غير المباشرة في الناقورة.
يعني ذلك أنّ السلطة في لبنان، بقواها السياسية التي ما زالت هي الممسكة بالبلد منذ عقود، ارتكبت خطأين مميتين في مسألة الترسيم بحراً:
1- التراخي والإهمال الذي أوصل إلى إقرار الخط 23 سقفاً للحقوق اللبنانية في البحر.
2- سوء إدارة الدولة اللبنانية، سياسياً واقتصادياً ومالياً، ما أوقعها في انهيار وصفه تقرير البنك الدولي بأنّه بين الثلاثة الأكثر سوءاً في العالم، على مدى قرن ونصف قرن. وفي ظلّ هذا الانهيار، بديهي أن يكون لبنان أكثر ضعفاً وأكثر قابلية لعقد اتفاق يدرّ مليارات الدولارات التي يحتاج إليها بإلحاح شديد.
ولكن، اليوم، يقول بعض المدافعين عن قوى السلطة: ما حصل قد حصل، ولا داعي للعودة إلى التذكير بالأخطاء والهزائم في لحظة الاحتفال. ويقول أيضاً: ولو كان لبنان يتبنّى رسمياً الخط 29، فليس واقعياً أن يربح الأرض كلها في المفاوضات. فلا بدّ للمتفاوضين من القبول بتسوية عند نقطة معينة. والتسوية في هذه الحال كانت ستتمّ على نقطة أقرب إلى الخط 23.
ويضيف هؤلاء: «الحرب بالنظارات سهلة». فالمزايدات على المفاوض اللبناني واستسهال الكلام على فرض اتفاق يعتمد الخط 29 ليست في محلِّها، لأنّ القوى الدولية تستعجل استخراج الغاز في هذه اللحظة الحرجة لمواجهة التقنين الروسي على أوروبا، وهي تضغط على لبنان للقبول بتسوية.
هذه المبررات يمكن قبولها في حدود معينة. ولكن، هل كانت هوامش التفاوض هي نفسها أمام الجانب اللبناني، لو لم يكن البلد في وضعية الانهيار المريع؟ ألم يكن قادراً على رفع سقف أعلى في المفاوضات وتحسين الشروط؟
وللتذكير، إذا كانت خسائر الهدر والفساد التي قادت إلى الانهيار الحالي تقدّر بعشرات المليارات، فإنّ قيمة الحقوق التي ربما تمّ إهدارها نتيجة الضعف في المفاوضات تقدَّر أيضاً بعشرات المليارات، وكانت تتكفَّل بردّ الخسائر ومنع الانهيار.
طبعاً، في هذا الضجيج الاحتفالي، يصعب على أي كان من أركان السلطة أن يعترف بالخطأ والعجز والإهمال. وأساساً، لم يعترف هؤلاء بأي مسؤولية لهم عن المأساة التي يتخبّط فيها اللبنانيون.
لكن المؤكّد أنّ الانهيار اللبناني كان مناسباً لإسرائيل، لأنّه منع المفاوض اللبناني من التمسك بالخط 29 طويلاً. كما كان مناسباً لإسرائيل اعتماد لبنان نفسه تلقائياً، وقبل انطلاق المفاوضات بسنوات، خط الحدود 23.