Site icon IMLebanon

شراء لبنان «ببلاش»!

 

 

إذا تمّ الاتفاق على ترسيم الحدود وتقاسم الموارد النفطية بين لبنان وإسرائيل، فسيكون ممكناً بدء الكلام على تفاؤل بخروج لبنان من الانهيار لسببين: الأول هو بدء استثمار الغاز، والحصول على القروض والمساعدات بكفالة هذا الغاز، ولو تمّ استخراجه بعد عام أو اثنين أو أكثر. والثاني والأهم، هو أنّ الاتفاق في الناقورة يعني أنّ الحظر السياسي على الدولة اللبنانية قد انتهى، وأنّ هناك قراراً خارجياً بالسماح للبنان بالنهوض من الانهيار.

ففي عدد من الأوساط، يسود اقتناع بأنّ الأزمة التي انفجرت في لبنان قبل 3 سنوات قد تمَّ التحضير لها قبل سنوات وعقود، بهدف دفعه إلى حالٍ من الضعف والتلاشي، يضطر بعدها إلى الخضوع لخيارات سياسية واقتصادية ستُفرض عليه وعلى الشرق الأوسط ككل.

 

يفسّر هذا الأمر لماذا لم تتخذ السلطة في لبنان (أو لم يُسمَح لها) أياً من القرارات الكثيرة التي كانت متاحة قبل 3 سنوات على الأقل، ومنها: منع خروج الأرصدة بمليارات الدولارات، وقف التهريب المدعوم من مصرف لبنان سواء كان مكشوفاً أو مقنَّعاً، إقرار قانون عادل وشفاف لـ«الكابيتال كونترول»، وقف النزف في احتياط العملات الصعبة من المصرف المركزي عن طريق ترشيد الدعم، توحيد أسعار الصرف، تجنّب التمنّع عن سداد «اليوروبوندز» اعتباطياً، وصولاً إلى إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي.

 

من 17 تشرين الأول 2019 إلى اليوم، مسار ثلاث سنوات من الانهيار المتروك كي يتمادى. ويُخشى أن يكون المطلوب هو إيصال لبنان إلى نهايات الانهيار، أي القعر، قبل إبرام الاتفاق معه على تقاسم الغاز. والمهلة المتبقية للمفاوضات وإنجاز الانتخابات والاستحقاقات في لبنان وإسرائيل قد تتكفّل بذلك.

 

فما يدعم المخاوف هو أنّ لبنان سيكون في أسوأ أوضاعه السياسية والدستورية خلال الأشهر القليلة المتبقية من هذه السنة، إذ تلوح بوضوح صورة الشغور في موقع رئاسة الجمهورية والعجز عن إنتاج حكومة فاعلة، ما يعني أيضاً شللاً في العمل التشريعي.

 

وفي الصورة أيضاً بدأت ملامح الفوضى مؤسساتياً وإدارياً ومالياً ونقدياً: تعطيل في قطاعي الكهرباء والاتصالات، تفلُّت للدولار في السوق السوداء، شلل كامل للإدارات بما فيها التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية، تعطيل للقضاء على الأرجح، مزيدٌ من التأزم في قطاع الطبابة والاستشفاء، وتضخُّم لن يقوى المواطنون على تحمّله.

 

وسط كل ذلك، لا تدور في الأوساط المعنية إلّا فكرة واحدة، هي إنشاء صندوق يضمّ موارد الدولة ومرافقها وممتلكاتها، تكون مهمته تعويض جزء من الخسائر.

 

والدراسات الأخيرة التي أجراها متخصصون باتت تقدر موجودات الصندوق، إذا جرى تأسيسه اليوم، بنحو 3 مليارات دولار أو 4 مليارات كحدٍ أقصى.

 

ويعلّق البعض على هذا التقدير بالقول: لم يعد اللجوء إلى هذا الخيار مجدياً كما كان في السابق. والحصول على هذه المليارات القليلة قد يكون ممكناً عبر وسائل أخرى، ومن دون المغامرة ببيع ممتلكات الدولة ورهن مرافقها لسنوات طويلة.

 

والصحيح أنّ التقديرات السابقة لموجودات هذا الصندوق، عند بداية الأزمة، كانت تتحدث عن 15 مليار دولار أو أكثر. وما تبدّل خلال 3 سنوات هو أنّ موجودات الدولة نفسها قد تراجعت أسعارها كما يحصل عادةً في الأزمات، إذ تهبط قيمة الأسهم والمؤسسات والعقارات والمرافق عندما تتعثّر. ولذلك، كان من الحكمة اتخاذ القرارات الاقتصادية الحاسمة في الموعد المناسب.

 

وإذا وصل لبنان في الأشهر المقبلة إلى قعر الانهيار تماماً، كما يُخشى في حال تعثُّر الاستحقاقات والتسويات واستشراء الفوضى الإدارية والمالية والنقدية، فإنّ الصندوق الموعود سيصبح هزيلاً جداً. بل إنّ لبنان سيجد نفسه مضطراً إلى توزيع بعض موجوداته مجاناً للتخلص من أكلافها، فيما تصبح أسعار الممتلكات الأخرى، كالعقارات، في الحضيض.

 

على هذا الأساس، يمكن طرح السؤال: هل هناك مَن يجهّز نفسه لشراء موجودات الدولة اللبنانية بـ»البلاش»؟ وما موقف القوى السياسية النافذة من هذه المسألة؟ هل ستستفيد من الفرصة؟

 

بل: هذه القوى التي يضطلع معظمها بدور الوكيل لقوى خارجية، هل ستستفيد من موجودات الدولة بالأصالة عن نفسها وبالوكالة عن هذه القوى الخارجية؟

 

وفي هذا الإطار، يتحدث رجال أعمال لبنانيون عن ملامح تهافت مستثمرين عرب وأجانب للمفاوضة وشراء مؤسسات متعثرة في لبنان، وإيجاد مكان لهم في عمليات الاستثمار المتوقع حصولها بعد انتهاء الأزمة. وهذا الأمر يتمّ على حساب كثير من المستثمرين اللبنانيين الذين اختاروا التخلّص من أعمالهم في لبنان بأبخس الأثمان، بداعي اليأس.

 

وفي الموازاة، يُخشى أن يكون مناخ الانهيار اللبناني ورقة ضغط على المفاوض اللبناني في ملف الترسيم والغاز. ولإسرائيل مصلحة في أن يكون لبنان في موقع ضعيف سياسياً واقتصادياً وإدارياً، حتى إشعار آخر.

 

في عالم البورصات، معروفة منذ القرن التاسع عشر قاعدة: «تشتري على وقع المدافع (بأرخص الأثمان) وتبيع على وقع طبول الاحتفال (بأغلى الأثمان) وتحقق الأرباح الطائلة».

 

ويقال إنّ اللورد ناثان روتشيلد هو الذي أعطى هذه القاعدة صدقيتها. فقد كان الإنكليز يخشون هزيمة جيشهم أمام نابوليون بونابارت في واترلو. لكن اللورد تفرَّد بمعلومات مبكرة عن انتصارهم. وقبل أن يشيع الخبر، سارع إلى شراء كميات هائلة من الأسهم في بورصة لندن بأسعار زهيدة، مستغلاً إحباط الناس. وبعد إعلان الانتصار، باع روتشيلد ما اشتراه وضاعف ثرواته.

 

اليوم، يعيش لبنان وضعية انهيار مقصودة. وثمة قوى داخلية وخارجية تستعدّ لشراء موارده وموجوداته «ببلاش»، وهو يفتقد إلى دولة تحميه. وذات يوم، عاجلاً أو آجلاً، سيخرج اللبنانيون من الأزمة. ولكن، هل سيبقى لهم من البلد ما يكفي للتأسيس مجدداً، أم سيكونون رهائن لأجيال؟