لا أحد يجهل، وبالطبع أميركا وإسرائيل، أن المفاوض اللبناني الرسمي ليس صاحب الكلمة الأخيرة في ترسيم الحدود البحرية. ولا شيء يوحي أن توحيد الموقف الرسمي، بعد تعدد المواقف وتناقضها، أحدث تبدلاً في الواقع. فحين ظهر تطور ما في المفاوضات بواسطة الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين كشف “حزب الله” الذي يكرر شعار الوقوف وراء موقف الدولة أنه يقف عملياً على رأسها. و”رسالة” المسيرات الثلاث فوق حقل كاريش الموجهة الى عناوين عدة، بينها العنوان الأميركي- الإسرائيلي، هي تذكير بأن حسابات “حزب الله” ليست فقط لبنانية بل أيضاً إقليمية ودولية. وكالعادة، فإن استعجال القراءة في “الرسالة” يقود الى اختلاف الآراء حول دورها في تسهيل المفاوضات أو تعقيدها.
ذلك أن الوضع معقد ودقيق جداً في مسألة النفط والغاز في شرق المتوسط. في لبنان المأزوم والمحتاج الى استثمار ثروته البحرية. في إسرائيل المستعجلة والتي فتحت مع مصر الطريق الى تزويد أوروبا بالغاز. في أميركا العائدة الى هموم الشرق الأوسط. في إيران وموقعها في المنطقة ومفاوضاتها مع أميركا على الإتفاق النووي. في روسيا الجارة في سوريا والغازية في أوكرانيا. في الصين المشغولة بأكثر من مشروع “الحزام والطريق”. وفي الإتحاد الأوروبي الباحث عن بديل من الغاز الروسي والدول العربية التي تبحث عن تحالف أمني دفاعي لمواجهة “الخطر الإيراني”.
و”رسالة”المسيرات يمكن أن تصبح جزءاً من لعبة حرب. فمن السهل على “حزب الله” ضرب المنصات في إسرائيل وسفن إستخراج الغاز. وما يمنع إسرائيل من شن الحرب هو ما يدفعها إليها إذا صارت عاجزة عن حماية ثروتها الغازية. ولا أحد يضمن عدم سوء التقدير في الحسابات وما يقود إليه الفعل ورد الفعل من تصعيد. فماذا يربح لبنان إذا قصف “حزب الله” إسرائيل بآلاف الصواريخ، ورد العدو بتدمير لبنان وحرمانه من ثروته الغازية؟
السؤال الذي لا بد منه حيال البابين الوحيدين المفتوحين أمام لبنان للخروج من الهاوية هو: هل يريد “حزب الله” بالفعل ترسيم الحدود البحرية مع العدو الصهيوني الذي يتحدث “محور الممانعة” بقيادة إيران عن محوه من فوق الخارطة؟ وهل يشجع السلطة الرسمية على الإتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي الذي يرفض شروطه ويصفه بأنه “أداة أميركية”؟
مهما يكن الجواب، فإن الواقع هو أن السلطة ليست في السلطة الشكلية، ولا دور عملياً لرؤساء الجمهورية والحكومات والنواب والوزراء. فهم يلعبون باللاحكومة في ملعب ينهار فوق حياة شعب جعلوه فقيراً يستحق شفقة الأشقاء والأصدقاء.
“الدول وحوش باردة” كما قال الجنرال ديغول. لكن اللادولة في لبنان تطلق على شعبها وحوشاً كاسرة.