Site icon IMLebanon

«خط الطفافات» باق إلى ما بعد بعد «تحرير فلسطين»!

 

 

سيسيل حبر كثير في «تفاهم 11 تشرين 2022» الخاص بترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل بين مهنّئ او منتقد عن اقتناع او غير اقتناع. ومع احتساب ردات الفعل الدولية والاقليمية فقد تجاوزت الانقسامات في البلدين ما انتهى اليه. تزامناً، سجّل مراقبون محايدون كثيرا من الملاحظات، ومنها أن تجميد البحث بـ»خط الطفافات» أبقاه في عهدة إسرائيل إلى ما بعد بعد تحرير فلسطين، عندما تختلط مياه لبنان بمياه غزة. فكيف ولماذا؟

بعيداً من مجموعة الأوصاف التي أُغدقت على التفاهم الخاص بترسيم الحدود البحرية بين لبنان والعدو الاسرائيلي، فقد تعددت القراءات في شأنه الى درجة يمكن ان تنسج من حوله أساطير عدة وسيناريوهات لا يمكن إحصاؤها بسهولة نظراً الى حجم ونوع ردات الفعل الداخلية الاقليمية والدولية والاممية التي تلت الاعلان عنه. إذ انّ معظم هذه الدول لم تر أي حرج في تسجيل موقف ممّا انتهت اليه مهمة الوسيط الاميركي عاموس هوكشتاين، خصوصاً عندما اختلطت المواقف الواردة من مختلف عواصم العالم والأمم المتحدة والهيئات والأحلاف الإقليمية والدولية سواء من تلك الحليفة للدولتين او من الخصوم لأيّ منهما بإجماع غير مسبوق.

 

ومردّ هذا الإجماع على التهنئة، في رأي المتابعين لكثير من التفاصيل، انّ هذه الموجة عكست عدم وجود اي حكومة او دولة في العالم قد تكون مُحرجة بمواقفها ان رحّبت او شكّكت بالتفاهم وبأيّ من بنوده. فالموفد الأميركي الذي يقود البحث عن حلول لأزمة الطاقة العالمية يُحاكي معاناة كثير من الدول التي يكويها ارتفاع أسعارها وندرتها في بعض الأحيان، وما يعنيه بالنسبة إليهم أنه اتفاق يزيد من حجم الطاقة التي يمكن ان تدخل الاسواق العالمية للتخفيف من كلفتها وتوفير البديل من اكبر خزّان دولي لها في روسيا يوفّرها عدد من الدول بنسب لا يمكن التعويض عنها من حقل او حقلين انما يوفّر فرصة إضافية لما تم اكتشافه من حقول او فتح المقفل منها في الدول الاسكندينافية ومن مجموعة الدول التي كانت تشكل الإتحاد السوفياتي السابق، مثل أذربيجان وكازاخستان ومحيطها ومناطق مختلفة في العالم.

 

ولذلك، فإن هوكشتاين الذي فاز بما لم يأت به أسلافه الموفدون السبعة ما عدا اولئك الذي غاصوا في ترتيبات لم تصل الى اي نتيجة ايجابية منذ العام 2000، الى ان تبلورت الصيغة الأولى مع اقتراح لفريدريك هوف منذ العام 2012 أدى الى ترسيم أول خط فاصل بين المنطقتين الاقتصاديتين اللبنانية والاسرائيلية وتحوّل مستنداً لا بد منه في المفاوضات المعقدة التي خيضَت في ظروف مختلفة من دون ان يؤدي الى اي تفاهم على رغم من بروز خطوط مختلفة منها «الخط واحد» الذي اقترحته اسرائيل اعلامياً ولم تتجرّأ يوماً ان تحمله الى أي طاولة مفاوضات لفقدان ما يبرره في مختلف القوانين والمواثيق الدولية سوى انه الرد الاقصى على «الخط 29» الذي اقترحه لبنان مُدعماً بكل الإحداثيات التي تقرّ بها القوانين والمعاهدات الدولية.

 

كان ذلك قبل عودة هوكشتاين إلى المنطقة بعدما خبرها قبل سنوات عدة وفي توقيت وصَفه بنفسه قبل يومين بأنه الأدقّ والأخطر ولا يمكن تفويته لأنه قد لا يتكرر مرة أخرى، مُستنداً الى مجموعة من المعطيات الناتجة عن الغزو الروسي لأوكرانيا وفي ظروف اقتصادية وامنية تشكل هاجساً بالنسبة الى الطرفين اللبناني والإسرائيلي، وهو ما يمكن الإشارة اليه بالآتي:

 

– على المستوى اللبناني، البلد مُنهك منذ سنوات عدة نتيجة حجم الأزمات الاقتصادية والمالية التي نَمت في زمن سياسي قاحل أدّت فيه السياسات المعتمدة الى استجلاب العقوبات الخليجية العربية والدولية وجَعلته يفتّش عن أي منفذ ممكن ولو بعد سنوات عدة للخروج من أزمات خانقة أفلست الدولة بكل مؤسساتها، وباتت مهددة بوجودها بعدما حَجبت الخدمات عن مواطنيها الى درجة لم تعرفها اي دولة مارقة او فاشلة في العالم.

 

– وعلى الجانب الاسرائيلي نَمت الهواجس الامنية التي تخشاها اسرائيل على الدوام الى الحد الاقصى، وما زالت تبحث عمّا يُطمئنها منذ العام 2000 تاريخ انسحابها من طرف واحد من لبنان من دون أيّ ضمان أمني. فمحيط الدولة العبرية يشكل بالنسبة اليها سبيلاً للقلق الدائم. وقد أدت أحداث متفرقة اخرى سبباً يبرّر لها اعتداءاتها الدائمة واجتياحاتها المتقطعة مدفوعة بقدرتها على تبريرها تجاه العالم وفي علاقاتها الخارجية لوقوعها في محيط عدائي يعزّزه الطوق المضروب من داخلها حيث «النسيج الديموغرافي المخيف» والقطاع العاصي عليها، ومجموعة الدول المعادية المحيطة بها لجهة حدودها الشمالية مع لبنان وجزء من حدودها الشرقية مع سوريا بعد خرقها المنفذ الأردني الثالث بتفاهمات رفعت من مخاطره منذ سنوات عدة.

 

لا تتجاهل هذه المعادلة التي سمحت لهوكشتاين بالخرق الذي تحقق فأجرى المعادلة الطبيعية بين الجانبين الاقتصادي والامني، فبنيت المعادلات التي يمكن ان تقود الى إرضاء الطرفين بالطريقة التي دفعتهما الى إطلاق مجموعة من الاحتفالات التي جعلت منه وسيطاً نزيهاً وعادلاً يستحق الشكر من اللبنانيين في السر والعلن بعدما تم تصويره بأنه «الصهيوني المُتلبس» بـ»الهوية الاميركية و»الوسيط غير النزيه» الذي لا يمكن ان يكون مؤتمناً على المفاوضات قبل التوصّل الى ما يستدعي من هؤلاء إعلان الانتصارات المشتركة بين الجانبين.

 

وفي مقابل هذه الصورة المتفائلة لا يمكن إهمال الجانب السلبي الذي عبّرت عنه بعض الفقرات في التفاهم الأخير، لا سيما منها تلك التي تتصل بطريقة التعاطي المالي بين العدو الاسرائيلي والشركة المشغّلة لـ»حقل قانا» كما بالنسبة الى مصير «خط الطفافات» المنصوب في المنطقة منذ 22 عاماً، فرأت فيه خطرين محدقين يمكن الإشارة إليهما بالآتي:

 

– بالنسبة الى حقل قانا فقد رفعت الدولة مسؤوليتها عن الجانب المالي الواجب ترسيمه بين «توتال» والجانب الاسرائيلي بطريقة أفقَدتها السيطرة التامة عليه وقد تسمح للشركة بأن تراعي الشروط الاسرائيلية إن تضارَبت في مكان ما مع اللبنانية بعيداً عن كثير من التفاصيل التي يمكن الاشارة اليها لاحقاً.

 

– أما بالنسبة إلى مصير «خط الطفافات» فقد عبّر الحل عن حجم الهاجس الامني الاسرائيلي الذي يتفوق على اي هم مالي او اقتصادي رَدّ عليه لبنان بطريقة اللامبالاة بمصيره. فلم يكن في قدرة لبنان استعادة المنطقة المحتلة ولا يمكن ان يعيد النظر في حدوده إن جرى اي تعديل على النقطة «B1» او على الخط الموازي لها لأنّ ذلك يستدعي تعديلا دستوريا، فرضخ لـ»الامر الواقع» وتركه عالقاً الى امد غير محسوب على قاعدة أنه قائم منذ 22 عاماً، ولم يؤد وجوده إلى أي مشكلة على رغم من تشكيله اعتداء سافراً قائماً على المياه اللبنانية.

 

وفي خلاصة المعطيات والمؤشرات التي عكسها الإتفاق، نُقل عن مرجع ديبلوماسي رافق المفاوضات بأدق تفاصيلها انه وعلى رغم ممّا شكّلته هاتان النقطتان من مخاطر استمرارهما عالقتين فإنّ التفاهم يسمح للبنان بإطلاق عملية «مجمّدة» منذ عقود من الزمن وانّ مصير «خط الطفافات» سيبقى في عهدة اسرائيل لفترة طويلة قد تطول الى حين «استعادة فلسطين المحتلة ومياهها» من «مُغتصبيها»، والى تلك المرحلة ستبقى هذه الطفافات «البرتقالية» تروح وتجيء يمنة ويسرة إن حرّكتها الأمواج البحرية، لا الأمنية ولا السياسية ولا الاقتصادية.