Site icon IMLebanon

المقاومة تفك الطوق الأميركي بالقوة أو بمفاوضات تظلّلها المسيَّرات

 

 

خلال فترة وجيزة من «تشميره عن ساعديه»، نجح حزب الله في تحقيق مروحة من النتائج – الإنجازات، عبر إرساء قواعد جديدة في المفاوضات البحرية بين لبنان وكيان العدو، وتصويب مسارها – بالمقدار الذي تتكامل فيه الدولة مع المقاومة – وفتح آفاق جدية لها تشكل أساس متيناً لإخراج لبنان من المأزق الذي هوى إليه. وتتجلى هذه الإنجازات في أكثر من عنوان، على طريق مسار يُتوقع أن تكون نتائجه استراتيجية وتاريخية تتعلق بمستقبل لبنان على المستوى الاقتصادي والمالي والسياسي، إضافة إلى تكريس معادلات الردع والقوة في مقابل كيان العدو، وتحوّل لبنان إلى قوة جيوسياسية في شرق المتوسط من بوابة الغاز والمقاومة.

 

النتيجة الفورية الأولى التي ترتبت على دخول المقاومة على خط المفاوضات أنها أسست لإخراج لبنان (وبدأ ذلك عملياً) من الطوق الأميركي الذي فرض على الشعب اللبناني، عبر وضعه بين خيارين: إما الانهيار الكامل، أو الخضوع للمطالب الأميركية والتخلي عن عناصر قوته، عبر تحميل المقاومة مسؤولية ما أدت إليه السياسات الاقتصادية والمالية للحكومات المتعاقبة. وبالنتيجة، انكشاف لبنان أمام النفوذ والأطماع الإسرائيلية أيضاً.

في المقابل، شقَّت معادلة المقاومة الطريق أمام خيار ثالث، وهو انتزاع لبنان حقوقه البحرية والغازية بما يسمح بالتأسيس لوضع اقتصادي يخرج الشعب اللبناني من النفق المسدود. وهو ساحة أخرى تنتظر حزب الله وقوى سياسية ووطنية أخرى لضمان حسن استفادة الشعب اللبناني من هذه الثروات.

 

نتيجة ذلك، نجحت المقاومة في توجيه ضربة أخرى، لكن أكثر نوعية، للحملة السياسية والإعلامية الأميركية، والتي يشارك فيها بعض الداخل، لتحميل المقاومة مسؤولية ما آل إليه الواقع اللبناني. وبدت المقاومة أكثر من أي وقت مضى طريق الإنقاذ للبنان وشعبه. وبرز دور إضافي لها إلى جانب الحماية من العدوان الخارجي، كقوة تحمي الثروات الطبيعية. ولا يقدح في ذلك مكابرة بعض الزعامات ومحطات إعلامية، ممن أصبحت حملاتهم عقيمة وعاجزة عن تأليب معظم الجمهور اللبناني على المقاومة.

والأهم في هذا الاتجاه، أن المقاومة نجحت أيضاً في فرملة سياسة التسويف الأميركية المستمرة منذ أكثر من 12 عاماً بجرّ لبنان إلى مفاوضات مفتوحة وعقيمة تمكن خلالها العدو الإسرائيلي من استكشاف الغاز في المياه الفلسطينية واستخراجه وتصديره، وصولاً إلى حقل كاريش الواقع على الخط 29. فيما بقي لبنان طوال هذه المدة يراوح مكانه وينتظر اقتراحات الوفود الأميركية التي تقتطع من حقوقه المائية وثرواته. فيما كل دول شرق المتوسط تستفيد من ثرواتها الطبيعية، باستثناء سوريا ولبنان.

دخول المقاومة بقوة فرض على الطرفين الأميركي والإسرائيلي التعامل بجدية مع الموقف اللبناني ضمن أفق زمني لا يتجاوز الأسابيع، بعد تسويف متواصل منذ عام 2010، على أقل تقدير، ضمن أفق مفتوح زمنياً. وهي الاستراتيجية نفسها التي اتبعها العدو مع السلطة الفلسطينية (اتفاق أوسلو نموذجاً، الذي كان يُفترض أن تكون مدته خمس سنوات، فيما مضى عليه حتى الآن نحو 28 عاماً، مع انعدام أفق تحقيق السلطة الفلسطينية الحد الأدنى الذي تنازلت في مقابله عن أغلب فلسطين بعد اعترافها بإسرائيل).

ad

 

بالتوازي، مع هذا الإنجاز نجحت المقاومة في فرملة المسار التنازلي للدولة اللبنانية في قضية الحدود البحرية. ويبرز ذلك بشكل جلي، لدى استحضار المحطات التي تم خلالها رسم الخطوط البحرية، من خط السنيورة – 1، وصولاً إلى الخط 29، وما بينهما من خط هوف والخط 23 وخط هوكشتين المتعرج (بين الخط 23 وخط هوف). فانطلاقاً من موازين القوى التي كانت تميل ابتداء لمصلحة الإسرائيلي في هذا الملف، وحاجة لبنان القصوى للاستفادة مما يمكن له، كان لبنان يبرر قبوله بالمفاوضات على أساس القواعد التي وضعها الأميركي. وبالاستناد إلى المنطق نفسه كان يمكن تبرير أي تنازل إضافي على قاعدة «القليل خير من الحرمان». وهو ما أشار إليه هوكشتين بصريح العبارة في مقابلة مع قناة «الحرة»، في حزيران الماضي، بالقول: «بدل التركيز على ما هو حق لي… ما هي الأفكار الخلاقة التي يمكننا كلنا أن نتفق عليها. قد لا أحصل على كل ما أردته، لكنني أحصل على ما هو أكثر بكثير مما لديّ الآن، وفي حالة لبنان، هو لا شيء».

نسفت المقاومة الأساس الذي كان يستند إليه هذا المنطق الأميركي المتعجرف، وكان يشكل أساساً لأي تنازل إضافي، بعد التنازل عن الخط 29، عبر تعديل معادلات القوة التي تحكم المسار التفاوضي. الأمر الذي أربك القوى التنازلية في النظام اللبناني خوفاً من الغضب والعقاب الأميركيين. وأرسى معادلة حادة جداً يُستعصى على إسرائيل تجنبها، وهي ربط حزب الله موعد تفعيل تهديداته بعملية استخراج الغاز من «كاريش». الأمر الذي يفسر تسريبات وردت على لسان وزراء إسرائيليين، بإمكان تأجيل الاستخراج إلى «أجل غير مسمى لأسباب وعراقيل فنية خاصة بشركة إنرجيان». وذهب بالمعادلة إلى ما هو أبعد عبر ربط مواصلة كيان العدو استخراج الغاز وتصديره من كامل مياه فلسطين المحتلة، برفع الحصار عن ثروات لبنان الغازية وحقه بالتنقيب والاستخراج والاستفادة منها.

ad

 

في السياق نفسه، عزَّزت المقاومة أيضاً موقف الدولة اللبنانية في المفاوضات. وأصبح الأمر يرتبط بمدى صمود مسؤوليها وعزمهم على التمسك بحقوق لبنان حتى لو بلغ التمسك بحقه في خط 29، خصوصاً أنها عبَّرت عن جاهزيتها لانتزاع هذه الحقوق والذهاب في هذا الاتجاه إلى أبعد مدى، وفق ما أعلنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله بأن المقاومة تقف وراء الدولة اللبنانية في تحديد حقوق لبنان. ومن أبرز تجليات قوة موقف لبنان إخراج كامل المنطقة التي كانت تسمى «متنازعاً عليها» (بين الخطين 1 و23)، من دائرة المفاوضات. وبحسب التقارير الإسرائيلية التي تتناول هذه القضية فإن قيادة العدو تتجه للاعتراف بحق لبنان (حتى الآن ضمن صيغة مقايضة لا يدري العدو إن كان لبنان الرسمي سيوافق عليها) في كامل حق لبنان الذي يتجاوز حده الجنوبي الخط 23.

بذلك تكون المقاومة قد فتحت آفاقاً جدية تنطلق من معطيات موضوعية، وبموجب ذلك يمكن تلمّس ملامح الضوء الذي لاح في آخر النفق الذي انحدر إليه لبنان بعدما كانت آفاق الحلول مسدودة، والخيارات محصورة بين الخضوع واستمرار تفاقم الوضع المالي والاقتصادي.

في الخلاصة، المعادلة التي باتت تحكم الساحة البحرية، في أعقاب المتغير النوعي الذي مثَّله دخول المقاومة بقوة على هذا الخط، هو حصول لبنان على حقوقه التي تُحدِّدها الدولة اللبنانية، ورفع الحظر الأميركي عن استكشاف وتنقيب واستخراج ثرواته الغازية في مياهه الاقتصادية، سواء بالقوة إن اقتضى الأمر، أو بالمفاوضات المظلَّلة بصواريخ المقاومة ومسيَّراتها. وكل ذلك نتيجة التغيير الجذري الذي أحدثته المقاومة في قواعد المفاوضات، والسياج الذي فرضته حولها، وعبر فرض سقوف لم تخطر على بال حليف أو عدو. وهو مسار سيؤدي لاحقاً، بالضرورة، إلى ارتقاء موقع المقاومة في المعادلة الإقليمية والشرق متوسطية، ويؤسس لتداعيات استراتيجية ستتجلى تباعاً في الساحتين اللبنانية والإقليمية.