Site icon IMLebanon

إحذروا الألغام… حتى في الباروك

 

33 سنة على انتهاء الحرب ولم تُستأصل بشكل نهائي

 

يوم دافئ جديد حلَّ على القرى الهادئة المترامية على سفوح جبل الباروك، إنه اليوم التاسع والعشرون من شهر أيلول 2023، لم يُحسب له أن يتحوّل الى تاريخ مفصليّ في حياة شاب من قرية مرستي الشوفية. كان الشاب (طلب عدم ذكر اسمه) يسرح بقطيعه بين خراج بلدتيّ المعاصر ومرستي، ومع وصوله الى أراضٍ زراعية قريبة من طريق للسيارات انفجر به لغم أرضيّ. عصف كوجه الموت الملوَّث بالوميض، ناثراً حجارة ودماء، كأنه يبوح للسماء بفشل الدولة اللبنانية في حماية مواطنيها.

شاءت الأقدار أن تُكتب لهذا الشاب حياة جديدة، مختلفة، لأنه فَقَد إحدى رِجليه. من جواله الخاص، استطاع الاتصال لطلب المساعدة فهرع المقرّبون من بلدة مرستي إليه، وأنقذوه قبل فوات الأوان. لا يتذكّر إذا كان قد فقد وعيه لفترة أم أنه بقي صاحياً وعارفاً ما حدث، لكن الأكيد أنه للوهلة الأولى لم يستوعب ما حصل بالضبط، فالاجتياح الاسرائيلي للبنان انتهى في العام 1983، أي منذ أربعين سنة، والحرب الأهلية ولَّت الى غير رجعة منذ العام 1990، أضف الى أن هذه المنطقة لم تكن يوماً منطقة عسكرية، فما الذي أبقى هذا اللغم الأرضي متخفيّاً كالموت المحتّم في أرض تنعم بالسلام منذ أكثر من ثلاثة وثلاثين سنة؟

 

لم تكن هذه الحادثة الأولى في لبنان، للأسف، وقد لا تكون الأخيرة. في الأيام القريبة الماضية سُجّلت إصابة عنصر من الدفاع المدني بلغم أرضي قرب صور، وقبله وقعت ثلاث إصابات على الحدود الشمالية، وقبلها في وادي خالد، وغيرهم كثيرون. إذ أعلن الرئيس السابق للمركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام العميد زياد نصر في كانون الثاني الماضي خلال مداخلة هاتفية أجراها مع قناة القاهرة الإخبارية أن عدد المصابين سنوياً جراء الألغام في لبنان يُقدّر بنحو 4000 شخص بين قتيل ومصاب، فيما تظهر أرقام المركز المنشورة على موقعه الرسمي أن عدد ضحايا الألغام خلال العام 2020 اقتصر على تسع ضحايا.

 

هذه القاتلات المخفيّة في تراب الوطن تتوزّع في أماكن لا يُمكن تصوّرها، في الغابات، في البساتين، بين القرى، على جوانب الطرقات الرئيسية، وفي المناطق الزراعية، ولا ننسى القنابل غير المنفجرة المرمية في الغدران ومجاري الأنهار. وبات يتّضح من خلال الحوادث المتكرّرة أن هناك أراضي غير آمنة بسبب الألغام لم تُسوّر حتى الآن بسياج خاص وبلافتات تحذيرية، حتى أنها لم تُدرج أصلاً في الخرائط الصادرة عن الجيش اللبناني. فقد نفى المركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام علمه بالحادث الأخير، كما نفى أن تكون الأجهزة المختصة قد لحظت وجود تلوث جراء الألغام في المنطقة التي حصل فيها. ورغم المحاولات لم نصل الى جواب قاطع من المسؤولين عما إذا كانت بعض الأراضي الملوثة مهملة بسبب عدم توقّع ما فيها أو لأنها قد تلوَّثت لاحقاً جراء الصراع المستمرّ مع العدو الإسرائيلي. وقد لحظ التقرير السنوي (نهاية العام 2022) للمركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام اكتشاف مساحات إضافية ملوّثة لم تكن ملحوظة من قبل.

 

الجهود ومأزق الإمكانيات

 

وفق مقال نُشر في مجلة الجيش، في تشرين الأول 2002، بدأت عمليات نزع الألغام في لبنان منذ العام 1990 مع بدء انتشار الجيش اللبناني في المناطق، حيث عمل فوراً على إزالة مخلفات الحرب. كما ورد في المقال ذاته أنه أُحصي في لبنان وجود ما يقارب 550 الف لغم، منها 435 الفاً زرعها العدو الاسرائيلي (أجري الاحصاء في العام 2002)، وكانت الخطة التي انطلقت في العام 2001 تقضي بالانتهاء من تنظيف جميع الأراضي اللبنانية مع نهاية العام 2006.

 

بقي هذا الرقم في تغيّر مستمر، فبموازاة أعمال التنظيف، كانت تُسجّل زيادات غير محددة في عدد الألغام المزروعة، وكانت المجموعات الإرهابية التي تمركزت على الحدود اللبنانيّة السوريّة، والعدو الاسرائيلي سببين رئيسيين في تزايدها، بالرغم من أن الفقرة السادسة من البند الثامن في القرار 1701 تنص على «تزويد الأمم المتحدة بجميع الخرائط المتبقيّة للألغام الأرضية في لبنان الموجودة بحوزة اسرائيل»، وفي بند آخر وقف جميع العمليات العسكرية مع لبنان.

 

ربما لهذا السبب، أو لأسباب مجهولة أخرى، ظهر اختلاف واضح بين المنشورات الرسمية ذاتها التي تتعلّق بموضوع الألغام. فقد أظهرت خريطة الألغام ومخلفات الحرب المنشورة على الموقع الرسمي للجيش اللبناني (دون تاريخ للنشر) تحت عنوان: «الوضع قبل عمليات الإزالة»، وتدلُّ على أن العدد الأكبر من الألغام، والأجسام المشبوهة في لبنان يتركّز في أقضية الجنوب، وفي قضاء عاليه – جبل لبنان، وتختفي الألغام كلياً من قضاء واحد فقط هو قضاء الهرمل، مرفقة بخريطة أخرى معنونة: «الوضع الحالي»، تبيِّن باللون الأخضر الألغام التي تم انتزاعها، أتت متعارضة بالشكل عما صرّح به الرئيس السابق للمركز اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام العميد نصر في المداخلة المذكورة أعلاه عن انتزاع نسبة 19% من مجمل الألغام والقنابل العنقوديّة المنتشرة في لبنان، فالخريطة تظهر نسبة مضاعفة أو أكثر.

 

أما التقرير الذي يُبيّن العمليات التي تمّت حتى نهاية العام 2022 (وهو التقرير الأخير الصادر عن المكتب) فلم يلحظ نسبة محددة للألغام المنزوعة بل اكتفى بتحديد المساحات، ربما للسبب المذكور، وهو «الزيادة المستمرة لاكتشاف مناطق ملوثة»، وفق مصدر تابع لإحدى الفرق العاملة.

 

وبالعودة الى العام 2014، نتوقف عند تصريح رسميّ لرئيس المكتب اللبناني للأعمال المتعلقة بالألغام آنذاك، العميد الركن عماد عضيمي الذي ذكر فيه أنه تم تنظيف نسبة 70% من المساحات الملوثة بالقنابل العنقودية ونسبة 46% من الأراضي الملوثة بالألغام.

 

هذا التفاوت يؤدي الى استنتاجين كلاهما مرّ. إما أن الأجهزة المختصة لا تملك معلومات دقيقة عن حجم التلوث، أو أن المساحات الملوثة في ازدياد مستمرّ.

 

جهود دولية

 

تساعد لبنان على التخلص من هذه الآفات جهات متعدّدة. وتعمل تحت إشراف جيشه فرق عديدة تابعة لجمعيات ومنظمات مختلفة، أبرزها: قوات حفظ السلام UNIFIL، جمعية المساعدات الشعبية النروجية NPA، منظمة ماغ الخيرية لنزع الألغام MAG (منظمة بريطانيّة)، المنظمة الدولية لنزع الألغام DCA (منظمة دانماركية)، منظمة هانديكاب العالمية HI. وبالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر الذي وقّع مذكرة تفاهم مع الجيش اللبناني بهذا الشأن.

 

أثمرت جهود هذه الفرق، خلال السنوات الماضية، تنظيف عدة حقول والتخلص من آلاف الألغام والأجسام المتفجرة. وبتاريخ 8 أيلول 2023 أعلن الجيش اللبناني جرود عرسال وراس بعلبك منطقتين خاليتين من الألغام.

 

الجهات الممولة لهذه الأعمال عديدة، أبرزها: منظمة الأمم المتحدة، الولايات المتحدة الأميركية، بعض دول الاتحاد الأوروبي، بعض الدول الآسيوية ككوريا الجنوبية، وبعض الدول العربية. لكن في الآونة الأخيرة أدى نقص التمويل الى تراجع وتيرة العمل في مناطق عدّة، كما توقفت في مناطق أخرى كدير دوريت الشوفيّة، التي أكّد رئيس بلديتها أنطوان سعادة لنداء الوطن توقُّف جميع أعمال نزع الألغام في الوقت الحالي في خراج البلدة رغم وجود مساحات مشبوهة ما زال الدخول إليها ممنوعاً. حال دير دوريت كحال العديد من القرى وضواحي المدن التي ما زالت ترزح فوق حقول الموت على امتداد الوطن.

 

كلفة إزالة اللغم الواحد لا يمكن تحديدها، بحسب مصدر متخصص في NPA، فهي تختلف من منطقة جغرافية الى أخرى ومن ظروف الى أخرى، بحيث ترتفع في المناطق المنحدرة والوعرة، وتنخفض في المناطق السهلية، تُضاف إليها العقبات الطارئة وعوامل الطقس. وتقول مصادر MAG Lebanon أنّ من أبرز المشكلات التي تواجه فرق العمل هي الحقول غير النظامية التي لا خرائط لها، تلك الحقول زرعت خلال الحرب الأهلية وهي منتشرة بكثرة في لبنان. وما يصعّب العمل أكثر هو تأثر اللغم الأرضي بالعوامل الطبيعية، خصوصاً في المنحدرات، حيث تضطر الفرق العاملة الى إعادة مسح البقع المنظفة بعد كل مطر غزير، لأن إمكانية أن تزحل الألغام الى المكان المنظف كبيرة جداً، وبالتالي لا مجال للتغاضي عن الأخطار التي تسبّبها. بالإضافة الى إمكانية تغيير مكانها بسبب دفعها من جذور الأشجار، لكن هذه الحالة قد تستغرق شهوراً عديدة.

 

في كل الحالات، لا يفقد اللغم الأرضي قدرته التفجيرية مع مرور الوقت، هذا ما أكّده لنا مصدر متخصص، بل يصبح أكثر خطورة مع تقدّم السنوات بسبب الصدأ والاهتراء في أجزائه الخارجية، فيقلّ الوزن المفترض لتفجيره.

 

خلاصة مُربِكة

 

بعد نفي المركز اللبناني للأعمال المتعلّقة بالألغام علمه بالحادث الأخير الذي وقع في الشوف، وهو المرجع الوحيد المناط به جمع البيانات المتعلقة بالألغام ومتابعة المصابين جرّاء حوادثها، وبعد اختلاف الأعداد والنِّسب بين التصريحات والمنشورات والخرائط. وفي ظلّ عدم وجود أرقام مؤكدة ومعلومات حاسمة عن الأراضي الملوثة تُظهرها حوادث جديدة واكتشافات جديدة مثيرة للقلق، وبعد ظهور تقصير واضح من الدولة في تأمين مناطق مشبوهة بوجود ألغام، هل يمكننا أن نسأل إذا ما كنا سنشهد حوادث أخرى في أماكن كانت تُعتبر آمنة؟

 

سبق وقدَّرت اليونيسف مهلة إزالة كل الألغام الأرضية من لبنان بعقدين من الزمن في مقال نشرته على موقعها unicef.org بتاريخ 27 كانون الأول 2019. حتى ذلك الحين، وإذا لم يطرأ أي تعديل مفاجئ، هل ستكون حملات التوعية كافية وحدها لدرء خطر الألغام في لبنان؟؟

 

أوكرانيا الأولى!

 

في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، برز خطر لم يكن في حسبان الأوكرانيين، وهو انتشار الألغام الأرضية بكثرة، حيث حلّت دولتهم الأولى في التصنيف «كأكثر دولة مليئة بالألغام في العالم» وفق ما صرّح به وزير دفاعها أوليكسي ريزنيكوف في منتصف السنة الحالية، متقدمّة على أفغانستان وكولومبيا اللتين كانتا تتصدران الترتيب. تليها عدة دول كالسودان والعراق وغيرهما، فالألغام الأرضية تنتشر في 60 دولة حول العالم بحسب ما نشره موقع أخبار الأمم المتحدة news.un.org في 10 تشرين الثاني 2021، مشكّلة خطراً حقيقياً على الأفراد يشبه الإعدام العشوائيّ.

 

وفي مشهدية مؤسفة، تصدرت سوريا دول العالم من حيث عدد ضحايا الألغام للعام 2020 بحسب مرصد الألغام الأرضية. وسوريا حالها كحال لبنان، فهي لم توقّع على معاهدة أوتاوا للتخلص من الألغام التي أُبرمت بتاريخ 3 كانون الأول 1997، وقد ضمّت 133 دولة ورفضتها 38، منها: الولايات المتحدة وروسيا والصين. ثم زاد عدد الدول الموقعة ليصبح 155 دولة قبل انتهاء العام 2007. ومع ذلك بقي لبنان خارجها.