IMLebanon

التوازن المفقود في لبنان

 

 

 

تتوازن الأنظمة السياسية في البلدان الديموقراطية، بممارسة الإنتخابات النيابية الحرّة والنزيهة، التي تنتج أقلية وأغلبية، يستند النظام فيها إلى هذه الأخيرة، لممارسة الحكم تحت رقابة وسطوة الأقلية. وهكذا يتم تداول السلطة بإرادةٍ شعبيّةٍ حرّة، داخل مسارٍ استراتيجي واحد، لا خلاف بين المواطنين على هوية هذا المسار، الذي يشكل المصدر الأساسي لتوازن أي بلدٍ في العالم.

 

يتأرجح لبنان اليوم بين مسارين استراتيجيين متناقضين: الأول يُصِرُّ على عزله عن محيطه، ليضعه في محور إنعزالي سوري – إيراني… بقوة السلاح، مع ما يترتب عليه من مآس وويلات خلافاً لتاريخه الطويل؛ والثاني يحاول تحريره وفك عزلته بالطرق الدستورية، لإعادته إلى العالم الفسيح المنتمي إليه منذ آلاف السنين.

 

في المبدأ، الإنتخابات النيابية هي المحطة الفصل في البحث عن التحوُّل في الأنظمة الديموقراطية ومن بينها لبنان. فقد أفرزت الإنتخابات النيابية الأخيرة فئة جديدة من ممثلي الأمة، دأبت دائماً على الإعلان عن رغبتها وإصرارها على العودة بلبنان إلى مساره الستراتيجي التاريخي الطبيعي. لكن يبدو أن روح المراهقة السياسية طغت على ممارسات هذه الفئة في محطتي تكوين هيئة المجلس النيابي ولجانه، وبعدها الإستشارات النيابية الملزمة في قصر بعبدا. فالصراع داخل كل كتلة على الشعبوية، وتضارب الإتجاهات في الإستشارات حتى داخل كل منها؛ ورفض التنسيق بين هذه الكتل المُستجدّة؛ بالإضافة إلى الإصرار على مخاصمة كل مكونات المجلس النيابي، شتَّتَ فعاليتها، وأضاعت فرصة ذهبية على اللبنانيين التواقين إلى تكوين جبهة نيابية قادرة على إنقاذ لبنان من محور الممانعة وإعادته إلى وضعه الإقليمي والدولي.

 

لم يرتقِ نواب «التغيير» من شعبوية الفكر الثوري الذي استوطنهم حديثاً، إلى مسؤولية الممارسة الدستورية التي استغاثت إليهم… لم يرتقوا من فوضوية الشارع إلى رصانة التواصل والتنسيق مع الأقرب إلى مشروعهم (إذا كان لديهم مشروع ويجب أن يكون لديهم مشروع) لحلِّ المسائل المعقدة؛ علماً أن الشارع المنتفض، لم يكونوا يوماً هم محركوه، وعليهم أن يُدركوا ويُقِرُّوا بذلك. ففي المواجهات السياسية، كما العسكرية، يختار السياسي «الخصم» الأخطر على مشروعه لمواجهته ومهادنة الآخرين؛ هكذا تُخاضُ «الحروب»، وهكذا تُخاضُ المعارك والمواجهات السياسية للوصول إلى تحقيق المشروع على مراحل؛ بدل إضاعة الوقت والتلّهي في تحديد من يقود الكتلة: دائماً أو بالتبادل كل سنة أو سنتين … ولكي يرتقي النواب الجدد والتغييريون إلى مستوى الفكر التغييري الدستوري، عليهم أولاً تحديد الخطر الأول الداهم على لبنان، علناً وبوضوح؛ ومن ثم مواجهته بالتنسيق مع المكونات النيابية الأقرب إلى مشروعهم لإزالة هذا الخطر. تماماً كما يحصل في كل الديموقراطيات لتثبيت خيارهم الستراتيجي. وأكبر دليلٍ على ذلك ما حصل بالأمس في الإنتخابات الرئاسية الفرنسية، عندما توزعت الكتل المتنافسة والمتخاصمة في الرئاسة، بعد فشلها في المرحلة الأولى، لتصطف وراء مشروعين استراتيجيين كانت على «خصومة» معهما : ماكرون أم لوبن.

 

لم يبقَ أمام الإنقاذ دستوريّاً سوى محطة واحدة تبدأ في أول أيلول؛ بحيث يجري فيها انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يمكنه إعادة لبنان إلى وضعه التاريخي الطبيعي. فإذا قررت هذه الكتل الـ»تغييرية»، وبعض المستقلين، التخلُّص والتفلُّت من أثقالهم التاريخية (المزيفة أصلاً)، لانتخاب رئيس «منقذ» للجمهورية، يعيد التوازن إلى لبنان؛ تكون بذلك قد أنقذت الوطن بوضعه على الطريق الصحيح للإنقاذ؛ أما إذا استمر البعض منهم أسير المواقف المثقلة بمرارة الأحداث، فعلى الإنقاذ السلام وعلى التوازن الوطني ألف تحية وتحية.