Site icon IMLebanon

ديموقراطية  

 

من حسن الطالع إنني أمضيت نحو سنتين في بريطانيا خلال مرحلة الجنون  التي عشناها في لبنان  ذات حقبة مروّعة انطلق فيها الوحش الكامن في الطوايا  فكان ما كان من حروب تناسلت حروباً ومجازر لحقت بمجازر، وقتل على الهوية، وقصف عشوائي(…).

 

وأشكر الله لأنّ تلك «المرحلة اللندنية» مهّدت  الطريق أمام وعي ديموقراطي، خبرت  خلالها كيف تكون الديموقراطية مرتكزة على أساس سليم: انتخابات شفافة، أكثرية تحكم وأقلية تعارض، واستفتاء يؤخذ  بنتائجه. ونجمة تلك المرحلة الساطعة كانت السيدة مارغريت تاتشر التي نقلت الامبراطورية (التي كانت الشمس قد بدأت تغرب عن امتداداتها العالمية) من «مهرجانات الإضرابات» التي يقودها حزب العمّال والمنضوون تحت عباءته من مختلف أطياف اليسار… الى أفياء  الاستقرار الأمني  والمالي فاستعاد «الجنيه» دوره  وحضوره وفاعليته بعدما كان ينهزم انحداراً أمام الدولار.

 

ولا تزال ماثلة في خاطري بضعة نماذج لعلني ذكرتها غير مرّة، ولكنني  أستحضرها باستمرار كلّما كاد اليأس أن يصيبني إزاء ما نعانيه في عالمنا العربي عموماً، وعندنا في لبنان، من تشويه للممارسة السياسية والانخراط في الحقل العام.

 

بداية أذكر متابعتنا، عبر أجهزة التلفاز، العملية الانتخابية التي أسفرت عن فوز كبير للمحافظين بقيادة «المرأة الحديدية» مسز تاتشر، حتى إذا ما أُقفلت صناديق الاقتراع كانت النتائج فورية وشبه محسومة. والزمن كان في أواخر سبعينات القرن الماضي. وتلك كانت تقنية متقدمة جداً في ذاك الحين.

 

 

والمشهد الثاني لقاء الفائزين والخاسرين فيتقدم الذي لم يفز من الرابح قائلاً له: «لقد منحك الشعب شرف الفوز، وآمل أن أتمكن منك في الدورة المقبلة، إذ علينا أن نحسّن أداءنا»… فلا شتائم، ولا وجوه عابسة، ولا تهديد ولا وعيد، ولا تفكير، مجرّد تفكير، بالطعون. لأن الانتخابات نزيهة وصحيحة والشك فيها من الممنوعات.

 

والمشهد الثالث صورة السيّدة تاتشر على كامل الصفحة الأولى من صحف «التابلويد» (التي كان مبيع كل منها يقارب العشرة ملايين نسخة) وهي تبرز في يدها وثيقة تثبت أنها بدّلت بضعة أزياء في أسبوع لأنّ والدها أهداها أثواباً وهي بالتالي لم تبدّد المال العام، ولا هي أسرفت في شراء الملابس… وكانت صحفٌ قد اعترضت على هذا «الترف»! أي أن الاعتراض على رئيسة الوزراء لأنها ظهرت في اليوم التالي بلباس غير الذي ارتدته في اليوم الذي عبر وطوال أربعة ايام! وهذا تبذير غير مقبول من الحاكم!

 

والمشهد الأكثر دلالة أنني كنت وزوجتي نقف في صفٍ طويل جداً ننتظر دورنا أمام شباك التذاكر لنشاهد فيلم ALIEN الخرافي حول وحشٍ فضائي وكانت تقف أمامنا سيدة سارع أحدهم الى إعطائها مظلة عندما هطل مطر خفيف من دون سابق إنذار، على عادة الجو في لندن، وكان الصف يمتد الى ما يتجاوز مبنيين خارجاً في الشارع… لنتبين أن السيدة أمامنا ليست سوى مارغريت تاتشر بذاتها، تنتظر هي أيضاً دورها لقطع تذكرة دخول الى القاعة.