لا إمكانية لنمو من دون قواعد تضمن تكافؤ الفرص، ولا ديموقراطية حقيقية من دون اقتصاد حر.
«يريد الخالق الرزق اشتراكاً
وإن يك خَصّ أقواماً وحابى»
(أحمد شوقي)
عندما طرح جون لوك فلسفته حول التسامح في القرن السابع عشر، إثر الحروب الطويلة ذات الخلفيات الدينية، ومن ثم منطق أنّ البشر جميعهم متساوون في الحقوق، لم تصل هذه الأمور إلى نوع من المنطق في التطبيق إلّا بعد أن استُكمِلت بفلسفة آدم سميث حول حرية العمل والمنافسة واختيار وسائل الاسترزاق. بالطبع فقد كان هذا مؤشّراً إلى ثورة جذرية في موازين القوى بين الناس، ومن بعدها لم يعد صاحب السلطان هو الضامن الوحيد لحياة البشر وأرزاقهم. وهذا ما سمح لاحقاً، وبعد سلسة طويلة من المحطات العنيفة والتفاعلية، بوضع مسألة حرية الفرد موضع التنفيذ، مقترنة بتحرّره من سلطة الرزق عليه وعلى آرائه وتصرفاته.
لم يتمكن الأكاديميون حتى الآن من تأكيد ما الذي يأتي أولاً في حاجات النمو في الأمم في خصوص البنية الفوقية للمجتمع، أي السلطة والمؤسسات الحاكمة والقوانين، والبنية التحتية، أي أفراد الأمّة ومبادراتهم الفردية ومساحة الحرية والثقة التي يتمتعون بها. لكنّ المؤكد هو أنّ التفاعل بين البنيتين الفوقية والتحتية هو الذي يؤدي إلى نجاح النمو أو فشله في معظم المجتمعات والأمم.
في كتاب «كيف تفشل الأمم؟» للأكاديميين «دارون أسموغلو» و»جيمس روبنسون»، دراسة معمّقة تضمنت عوامل تاريخية واجتماعية واقتصادية وجغرافية، في محاولة لاستنتاج أسباب نجاح أو فشل الأمم في النمو الإقتصادي. في المحصّلة، يعتقد الكاتبان أن التزاوج بين سلطات ترعى الحريات وتدعم المبادرات الفردية وتحمي الملكيات الخاصة والأدبية، مصحوبة باقتناع المواطن أنه قادر على التأثير على حياته من خلال الجد والعمل والدراسة، والأهم قدرته على تغيير الحاكم، هي الصفات الملازمة للأمم الناجحة في عالمنا الحالي. والنمو هنا لا يعني فقط الغنى، فهناك كثير من الأمم الغنية مالياً مع أنها لا تزال في أدنى مستويات النمو على مستويات عدّة في مجالات القوة الناعمة والحريات الفردية وتحرر وسائل الفعل والإبداع.
وهذا يعني أنّ البلدان التي يعتمد غِناها على الموارد الطبيعية، من دون غيرها من وسائل الإنتاج، ولا تمتلك بنية سياسية واجتماعية تُفسح في المجال لكل مواطنيها بالمشاركة في الإنتاج وصنع القرار السياسي، لا يمكن وضعها أبداً في خانة الأمم الناجحة.
وعلى عكس ما يظنّ أصدقاؤنا اليساريون، فإنّ سقوط القواعد الإقتصادية القديمة المبنية على الإقطاع، لم تأت على أيديهم، فمَن أسقط الإقطاع كان البورجوازية التي قامت هي وبادَرت، فحرّرت قواعد الإنتاج وأخرجتها من أيدي الملوك والملّاكين ورجال الدين، ووضعتها بسرعة هائلة في مجالات التنافس بين الناس كلهم. فواكبتها الثورة الصناعية التي أنتجت رأسماليتها، وأنهت بالتالي نمطية السلطات القائمة على تحالف الإقطاع مع المقدس، والتي استمرت على مدى قرون طويلة من التاريخ.
يعني ذلك أنّ التحول الكبير في طبيعة السلطات في الغرب كان نتاجاً منطقياً لتغيير نمط قواعد الاقتصاد والإنتاج، وهو نتاج خروج سلطة لقمة العيش والرزق من يد الحاكم المطلق أو الأقلية المحيطة به.
سؤال أكاديمي طرحته باحثة أجنبية لرسالتها في الدكتوراه في العلوم السياسية عن أسباب فشل التجربة الديموقراطية في لبنان. سمعت الباحثة الشابّة أفكاراً عدة من سياسيين من مختلف الاتجاهات في لبنان، وتضمنت مسائل متناقضة حتى بين أفراد من الفريق الواحد. كانت التهمة في الفشل توجّه إلى قوانين الإنتخابات والطائفية والتسلّط والإقطاع السياسي والوجود الفلسطيني والهيمنة السورية والسلاح غير الشرعي التابع لإيران وغياب الديموقراطية في المحيط العربي وطبيعة اللبناني الفردي والفساد…
جوابي أنا كان أنه لا يمكن الحديث عن نجاح الديموقراطية من دون تغيير جدي في قواعد الإنتاج على أساس تحرير أرزاق الناس من سيطرة الأقلية المتحكمة، وهي عندنا تتمثّل بالإقطاع السياسي الطائفي. واسترسَلت في الحديث عن الثورة الفرنسية ذات الطابع البورجوازي، والتي أعطت مثلاً تأثّر به العالم كله، ومعها وبعدها الثورة الصناعية وتفجّر الأفكار الخلاقة للأفراد في الاختراع والاجتهاد.
لكنّ الباحثة قالت إنّ لبنان هو من الدول ذات الاقتصاد الحر، وبالتالي فإنّ الحجة الاقتصادية تصبح ساقطة، كما أنّ الانتخابات تحصل دوريّاً، ويذهب الناس وينتخبون وراء العازل، يعني أنه لا يمكن لأحد أن يُجبرهم على انتخاب أحد. فقلت إنّ الانتخابات ما هي إلا أحد أركان النظام الديموقراطي، أمّا صحتها فهي مسألة أخرى. صحيح أنّ المواطن يمكنه أن ينتخب من يريد عندما يقف وراء العازل في يوم الإنتخابات، لكنّ خياره مرهون بعوامل عدة ليس فيها من الديموقراطية شيء. الواقع هو أنّ الإقطاع السياسي الطائفي هو العنصر الأهم في إدارة الإنتخابات والتحكّم بنتائجها، لأنه يتحكّم بمصدر رزق الناس. يُضاف إلى ذلك عوامل الحرب الأهلية من الإحتلال السوري الطويل والمدمّر، ومن بعده سلاح «حزب الله» الذي يبدو أنه قائم إلى أجل غير معلوم، والتأثيرات المذهبية والإقليمية…
ولكن رغم ذلك كله، فإنّ واقع الاقتصاد يبقى العامل الأهم. ومن الواضح أن لبنان، رغم الحرية الإقتصادية النظرية كلها، ما زال بعيداً عن تسهيل المبادرات الفردية، وما زالت الالتزامات والمعاملات والقروض خاضعة للاستنسابية السياسية والمذهبية، وما زال الفساد الإداري مستشرياً ومحمِيّاً اجتماعياً وسياسياً ومذهبياً. الواقع هو أنّ أرزاق الناس تحولت من سلطة الإقطاع الزراعي في لبنان إلى سلطة الإقطاع السياسي الطائفي. ومع أنّ حجم الدولة في الإقتصاد الوطني يُقارب الـ9 في المئة، إلّا أنّ نصف المواطنين تقريباً يعتاشون من الوظائف الرسمية، مع أنّ تَوجّه معظم الاقتصادات الناجحة هو نحو تقليص حجم المعتاشين من القطاع العام وتوسيع قواعد القطاع الخاص. ولكن الوضع ربما كان مقبولاً لو أنّ المعايير التنافسية هي التي تحكم التوظيف في القطاع العام، أو لو كانت معايير التقويم والترقية والمكافأة تعتمد على الكفاءة والإنتاجية. ولكن هنا أيضاً نرى أنّ العنصر الأهم في السيطرة على الوظائف الرسمية بمختلف مستوياتها هو شراكة الإقطاع السياسي والمذهبي.
في العيد السابع والسبعين للاستقلال، ونحن نَترنّح على حافّة وادي جهنم، ويتطلّع بعضنا إلى أعجوبة تمنع السقوط، والبعض الآخر يبحث عن تأشيرة سفر، أو التوبة عن الاستقلال بأمل أن تأتي وصاية جديدة. لا بد من التأكيد أنّ ما نشهده اليوم ما هو إلّا نتيجة منطقية لغياب معايير نجاة أي أمّة في النمو والبقاء، ولسنا الوحيدين في هذا المسار. انّ معضلة شراكة الإقطاع السياسي والمذهبي هي التي تسبّبت بسلسلة الحروب التي عشناها، وهي السبب الرئيس في تدهور الإقتصاد. ولا يمكن الخروج من واقعنا، إذا نجحت أعجوبة وقف الانهيار، إلّا بتحرير السوق من سيطرة الإقطاع، بالتوازي مع إصلاحات واسعة في البنية الفوقية لتتناسَب مع الاقتصاد الحر حتى نتمكن من إرساء ديموقراطية حقيقية وتحقيق النمو المَرجو.