غيبوبة الدولة المستمرة منذ فترة، وما ينتج عنها من مضاعفات إنعدام الوزن، ومشاحنات سياسية وحزبية وشخصية، تهدد بتداعيات خطيرة على الوطن والكيان، بدأت ملامحها تظهر من بعيد في العودة إلى طروحات الفدرلة والتقسيم، التي تردد أصداؤها في أوساط سياسية وروحية.
وإذا كان إنتخاب رئيس للجمهورية يتطلب توافقاً دولياً وإقليمياً، فإن الإتفاق على صيغة مناسبة لإجتماعات حكومة تصريف الأعمال، يبقى شأنا داخلياً بإمتياز، وخطوة ضرورية وبالغة الأهمية، لأن البلد يعاني من أزمات متدحرجة، في ظل هذا الشلل بالسلطة، وما يفرزه من تسيّب في إدارة الشأن العام، وتضخم حركة الإضرابات التي تكاد تشمل مختلف القطاعات الإدارية والتعليمية والخدماتية.
أما إستمرار الفشل في معالجة مسألة الجلسات الحكومية، فسيؤدي إلى تراكم العجز في التصدي للملفات الملحة، ويُسرّع خُطى سقوط لبنان في حفرة الدولة الفاشلة، التي يقف على مهوارها في السنوات الأخيرة.
لم يعرف لبنان في تاريخه الإستقلالي مثل هذه المحنة التي قلبت أوضاع البلد رأساً على عقب، وهوت باللبنانيين إلى مهاوي الفقر والعوز، وهددت أوصال الدولة ودورها، وكشفت فساد وفشل المنظومة السياسية في إدارة شؤون البلاد والعباد.
ولعل أبشع مشاهد الفشل الذريع لأهل الحكم، تجسد بقرار الأمانة العامة للأمم المتحدة بمنع لبنان من التصويت في الجمعية العامة للمنظمة الدولية بسبب تخلفه عن سداد بدل إشتراكه السنوي، الأمر الذي لم يحصل في أشد سنوات الحرب قساوة، في ظل إنقسام الدولة بين حكومتين وجيشين وسلطتين.
ومن الصور القاتمة لهذا الفشل بقاء بواخر الفيول في عرض البحر قرابة الشهر، والبلد غارق في عتمة كاملة، والخزينة المفلسة تتحمل غرامات التأخير بمئات الألوف من الدولارات، والناس تئن من دفع الفواتير المضاعفة لأصحاب المولدات.
أما محاولات ترحيل حامولة الأزمات وما يُحيط بها من كوارث إقتصادية ومالية، وما تحمله من معاناة ومآسٍ إجتماعية ومعيشية للأكثرية الساحقة من اللبنانيين، إلى العهد الجديد، فهو تهرب فاضح من المسؤولية، ودليل آخر على عجز أهل الحكم عن الحد من الانهيار، على الأقل، بعدما ثبتت عدم قدرتهم على الإصلاح والإنقاذ.
يُضاف إلى كل ذلك، أن لا مؤشرات عن قرب حسم الملف الرئاسي لغياب الراعي الخارجي من جهة، ولطالما بقيت، من جهة أخرى، الإنقسامات والصراعات بين الأطراف الداخلية على حالها من التصعيد والتعقيد، بدءاً من إهتزاز التفاهم بين حزب الله والتيار العوني، إلى إستمرار التراشق بين العونيين والقوات، فضلاً عن معارضة الإثنين لوصول رئيس المردة سليمان فرنجيه إلى بعبدا.
وإعتصام بعض نواب التغيير في مجلس النواب، قد يكون كَسَر الجليد المحيط بمواقف المنظومة السياسية الجامدة منذ بدء جلسات الإستحقاق الرئاسي، ولكنه لن يوصل إلى نتيجة حاسمة، لأن النواب المعتصمين، وزملاءهم في مجموعة التغيير، لا يتعاملون مع هذا الحدث بالجدية اللازمة، وكان الحذر طابع مواقف العديد منهم، حيث إكتفى بعضهم بالمرور على قاعة الإعتصام لفترات قصيرة خلال النهار، فيما بادر البعض الآخر إلى السفر خارج لبنان!
كان من الممكن التعويل على حركة التغييريين لو جاءت الخطوة في إطار الدعوة التي أطلقها الرئيس نبيه برّي للحوار النيابي حول الإنتخابات الرئاسية، ومحاولة الوصول إلى مرشح توافقي، وطوي صفحة جلسات الأوراق البيضاء. ولكن إصرار النواب الجدد على التفرد بقراراتهم، وإتباع أساليب الظهور بالصدمات المفاجئة، أضاعا إمكانية تحويل الإعتصام إلى فرصة للحوار مع الآخر، الذي بقي متحفظاً في التعامل مع هذه الخطوة التي تبقى ناقصة، لأنها لم تستقطب تأييد ودعم الكتل النيابية الكبيرة.
قد تكون الصيغة التوافقية لمبدأ ديموقراطية الإنتخابات، التي تفتح أبواب التنافس بين مُرشحيْن أو أكثر، ولكن المحنة القاسية التي يتخبط فيها البلد، والإنقسامات العامودية الحادة بين الأطراف السياسية، والحساسيات الطائفية التي بدأت تظهر على الجسد اللبناني، تقضي بتجنب لبنان، الصيغة والدولة، معارك كسر عظم، يُنتج عنها منتصر ومنهزم، حتى لا تأخذ القضية الطابع الطائفي البغيض، ونعود إلى دوائر المواجهة والنفور والإحباط.
في المبدأ، نحن ضد التوافقية التي تُعلِّب الممارسة الديموقراطية، ولكن الظروف الإستثنائية التي يمر بها وطننا المنكوب، تتطلب اللجوء إلى خطوات وخيارات إستثنائية، للخروج من النفق المظلم وبلوغ شاطئ الأمان.
فهل من يسمع قبل فوات الأوان؟