بعد مرور سنة ونيف على شغور سدة رئاسة الجمهورية، لا تزال ممارسة «الرئيس الوكيل» الذي أناط به المشترع الدستوري ملء الشغور قضية تتباين وجهات النظر حولها وتكثر في شأنها الاجتهادات، برغم أن المشترع كان عندما وضع الدستور قد احتاط لإمكان حصول مثل تلك الحالة فوضع نصاً صريحاً وواضحاً لتدارك انعكاسات مثل هذا الشغور.
فقد نصت المادة 62 ـ دستور النافذة الإجراء على التالي: «في حال خلو سدة الرئاسة لأي علّة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء». وكان هذا النص قبل التعديل الدستوري المنشور في 21/9/1990 كالتالي: «في حال خلو سدة الرئاسة لأي علّة كانت تناط السلطة الإجرائية وكالة بمجلس الوزراء». ويتبين من المقاربة بين النص النافذ والنص الأول المعدّل أن الوكالة في حال شغور سدة الرئاسة كانت تنيط صلاحيات السلطة الإجرائية وكالة بمجلس الوزراء. بينما في النص النافذ الإجراء أصبحت الوكالة تنيط «صلاحيات رئيس الجمهورية» بهذا المجلس.
والجدير ذكره هنا أن صلاحيات رئيس الجمهورية لها طابعين: الأول ما له علاقة بفصل السلطات كرد القوانين وإصدار المراسيم وغير ذلك، أما الثاني فيتصف بكونه يتعلق بشخص الرئيس وذاته ولا يرتبط بمبدأ الفصل كما في المادة 59 ـ دستور التي أولت لرئيس الجمهورية حق تأجيل انعقاد المجلس النيابي لمدة شهر في الدورة العادية أو الاستثنائية وغيرها.
وما يجدر ذكره أيضاً أن المادة 62 قبل تعديلها كانت تنيط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء باعتبار أن الرئيس كان يتولى هو صلاحيات السلطة الإجرائية، وبذلك تكون «الوكالة الرئاسية» في حال الشغور لم تشمل صلاحيات الرئيس التي منحها الدستور لذاته والتي تعتبر بمثابة الشخصية.
أما في النص النافذ اليوم فإن الوكالة الرئاسية قد أناطت «صلاحيات رئيس الجمهورية» بمجلس الوزراء. ولأن السلطة الإجرائية قد أصبحت في عهدة مجلس الوزراء في التعديل الدستوري المنشور سنة 1990 أيضاً فإن الوكالة الرئاسية تكون شاملة لجميع صلاحيات الرئيس عملاً بالمادة 62 النافذة ولا تقتصر على «وكالة الصلاحيات المتعلقة بسلطة من السلطات. ولهذا فإن شغور سدة رئاسة الجمهورية يؤدي تلقائياً إلى توكيل مجلس الوزراء بجميع صلاحيات الرئاسة وليس جانباً منها.
ربما كان بعض مجلس الوزراء يتوافق مع هذه القراءة لنص المادة 62، إلا أنه يكتب قراءته تلك في نفسه بعد استنهاض البعض لـ «الميثاقية» معتبرين أن ممارسة مجلس الوزراء صلاحياته بموجب الوكالة يتعدى مفهوم الميثاقية ويجهز عليها، حتى أن بعض هذا البعض هدد وبوضوح أن العمل بمفهوم النص الدستوري سيكون الخطوة الأولى لتفسّخ كيانية الدولة اللبنانية، وهذا ما يستدعي الوقوف عند مفهوم الميثاقية في النظام السياسي.
إن الميثاقية ليست نظاماً بحد ذاته كما النظام البرلماني الديموقراطي أو النظام الجمهوري وغيرها من الأنظمة التي تكرّست مفاهيمها عبر السنوات حتى أصبحت تلامس مفهوم العلمية. فالميثاقية قد تكون جزءاً من نظام سياسي تقضي به مصلحة الدولة ويتفق حول مضامينه، وبهذا تكون الميثاقية استثناء لقواعد ومبادئ النظام الذي تنشأ في داخله. وككل استثناء يتطلب وجوباً أن يكون محدداً ولا يمكن تفسيره إلا بالمفهوم الضيق ويتصف دائماً بخروجه عن أصول النظام الذي تدخل الميثاقية في صلبه.
والدستور اللبناني عندما قال بالميثاقية وضع بنصوص صريحة وعديدة حدودها، كما في المادة 24 ـ دستور التي نصت على المناصفة بين عدد النواب المسلمين والمسيحيين، فمهما كان عدد هذه الطائفة أو تلك تبقى المناصفة قائمة وهذا يتعارض مع أصول النظام الديموقراطي البرلماني المعتمد في لبنان. وعندما قال في المادة 65 بتمثيل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة يكون قد ألزم نفسه بما لا تلزمه به أصول النظام عند تشكيل الحكومات… وهكذا في نصوص أخرى، فمثل هذه الأحكام الخارجة عن أسس النظام البرلماني الديموقراطي وأصوله هي استثناءات للنظام وهي في مجموعها تشكل الصيغة الميثاقية التي رسمها المشترع للدولة اللبنانية فكل خروج عن هذه الحدود الواردة في النص هو اعتداء على الدستور. ولكن..
إن الأنظمة، كما الدول والأفراد، تتعرض للمصائب، ومصيبة ميثاقيتنا، كما هي اليوم تحديداً، أن الديموقراطية تساوي بين شيبوب وعنترة وتمنح لكل منهما صوتاً يعادل الآخر، في الوقت الذي لا يرتدع فيه شيبوب عن التحدي ولا يعبس فيه عنترة في وجه خادمه ليلتزم بأخلاقية الخدمة المعهودة إليه!