ما زالت الديموقراطية تشكل أفضل أنظمة الحكم في العالم، رغم ما أوجبه التقدم العلمي والمعلوماتية وتقنيّات الاتصالات من حاجة ماسّة لتطوير آليات تطبيقها لتتماشى مع حاجات العولمة، ولكي تصبح أكثر إنسانية وأكثر عدالة في تمثيل فئات الشعب كافة على اختلاف قدراتهم الثقافية والاجتماعية وتنوعها، وإشراكهم في الشؤون العامة المسيِّرة لأمور المواطنين وعيشتهم، والناظمة للتفاعل بين مكونات المجتمع.
وعلّني أسارع إلى التأكيد على أن النظام المرتجى سيشبه إلى حدٍ بعيد النظام الميثاقي اللبناني القائم على عقد اجتماعي توافق عليه القادة اللبنانيون منذ فجر الاستقلال، والذي لم نحسن تطبيقه حتى الآن ولم نحقق الغاية التي وضع من أجلها.. وعليه، لا بدّ من دعوة الدول العريقة في تطبيق الديموقراطية، «التركيز على مسألة التغيير والتحول في المفاهيم الديموقراطية، ووضع الأنظمة والقوانين الملائمة لمواجهة التحديات القائمة على أرض الواقع، في المجالات السياسية، الاقتصادية، البيئية والثقافية، وحقوق الإنسان ووضع المرأة».
وبالعودة إلى لبنان الذي يعيش مرحلة جدّ صعبة من تاريخه تتطلب جهداً استثنائياً لتبريد حرارتها قبيل الانفجار، لا نزال نمارس أسوأ نواحي تطبيق الديموقراطية من خلال الخلط المقصود، أو غير المقصود، بين ضرورة وجود المعارضة وبين التعطيل بالمقاطعة.
فالديموقراطية في نشأتها، قامت على مفهوم حكم الشعب، وأتت بالمعارضة من الشارع إلى داخل المؤسسات الدستورية والسياسية، لكي تشارك في القرار وفي المناقشة، وفي تقديم الاقتراحات التي تراها مناسبة لتقويم التعسف التشريعي، ومواجهة الانفراد في الرأي، وللقيام بدور المراقب والمحاسب بالطرق الديموقراطية المعروفة.
ومن بديهيات الديموقراطية أيضاً، الإقرار المسبق بقبول النتائج التي تفرزها عمليات الاقتراع والتصويت، إن كان في العمليات الانتخابية، أو في ممارسة التشريع وإقرار القوانين. في حين أن التعطيل بأشكاله كافةً يعني عملياً «رفضاً مسبقاً للنتائج».
إنّ المعارضة بمفهومها العام، لا تقتصر على مقارعة السلطات الحاكمة سياسياً فقط، بل تشمل أيضاً الاختلاف في الرأي وفي النظرة حول أي أمر جار بحثه، إن كان استحقاقاً دستورياً أو تشريعاً عادياً. فكيف لمن يمثل الأمة جمعاء أن يمارس حقوقه ويطرح رأيه ويناقشه، وهو ممتنع عن حضور الجلسات، ويعمد إلى تعطيل النصاب عن طريق المقاطعة؟ فهذه المقاطعة هي بحد ذاتها ممارسة غريبة عن المفاهيم الأساسية للديموقراطية، وهي تتعارض كلياً مع المصلحة الوطنية العليا، وتؤدي إلى شلّ أهم المرافق العامة أبرزها رأس الدولة مع ما يعنيه ذلك، وإلى المساس بحقوق المواطنين البديهيّة واحتياجاتهم الحياتيّة اليوميّة.
بالرغم من أن الدستور لا ينص صراحةً على عدم جواز المقاطعة أو الاعتكاف السياسي، وبالرغم من أنه ينصّ على وجوب تحقيق نصاب حضور محدد لعقد الجلسات، فهذه النصوص في روحها وموجباتها تفترض أن يكون الغياب لقوة قاهرة مانعة عن الحضور وعن القيام بالواجب، وناتجة عن اضطرابات أمنية أو كوارث طبيعية، أو مرض أو انتشار وباء ما.
ومعلوم أن القوة القاهرة والظروف الطارئة تبقى مؤقتة، وتزول بزوال مسبباتها. بينما استمرار التعطيل فهو تعبير مسبق عن رفض النتائج، وهو خروج عن النظام الديموقراطي، ويشكل انقلاباً على النظام وعلى العقد الاجتماعي المعمول، فيعتبر وكأنه تعليق لتطبيق الدستور.
إن أحكام التاريخ قد بيّنت أن مثل هذا التعليق لا يتم إلا بحكم عسكري بعد انقلاب غير سلمي، أو بالعمل على تغيير النظام سلمياً، من خلال عقد «مؤتمر تأسيسي» يولد عقداً اجتماعياً ودستوراً جديدين.
فهل نحن اليوم بصدد العمل على أحد هذين الخيارين، ولماذا لا نقول ذلك علناً وبدون مواربة؟ لماذا لا نصارح مواطنينا بالأمر بدلاً من أن نتركهم في ضياع وخوف على مستقبل أولادهم؟
أوليس من حق المواطنين أن يعرفوا من قادتهم ومن ممثليهم سرّ هذا التخبط الذي يعيشون فيه بتعطيل سبل معيشتهم، ومنع تطوير بلدهم، وعدم نمو اقتصادهم؟
إن شعبنا بتاريخه المجيد، يستحقّ أن يعرف لماذا هذا الحرمان من الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي.. أم أنّ حقّ المعرفة هو حرام عليه؟