Site icon IMLebanon

الديموقراطية للعرب حتى يتوقف نهر الدم

الديموقراطية حول العالم في أزمة، هذه مسألة مفروغ منها، وقد خصصت مجلة «إيكونوميست» المرموقة في عددها الأخير تقريراً مطولاً لتأكيد ذلك، خلاصته أنها تعاني من فقدان الثقة بها، فاستعرضت جملة من الاقتراحات لتحسين أدائها وأدواتها واستعادة إيمان الناس بها، كي تحقق غرضها لتحقيق الحكم الراشد. هذا رخاء لمّا نصل إليه بعد، فالديموقراطية باتت ضرورية لنا – معشر العرب – حتى نتوقف عن قتل بعضنا البعض، ثم نفكر بعدها في استخدامها لتحقيق «الحكم الراشد».

يسري هذا تحديداً على الجمهوريات العربية التي انهارت بعد الربيع العربي، وخرجت من منظومة «النظام العربي القديم» القائم على استبداد العسكر، ولم تفلح حتى في العودة إليه على رغم أنه كان سبباً في ثورات 2011، بالتالي تظل الديموقراطية هي المخرج الوحيد الممكّن لها للخروج من دائرة الدم التي تعيشها.

عندما يناقش الغربي حال الديموقراطية عنده فهو مشغول بتوجهات الناخبين، الذين انصرفوا نحو اليمين المتشدد، ومرشح أهوج يتعارض مع قيمها مثل دونالد ترامب، ومعني بانخفاض نسبة المشاركين في الانتخابات، وارتفاع نسبة عدم الرضا في البرلمانات، لذلك يتفكرون في سبل إعادة إحيائها من جديد لتتوافق مع تحولات العصر وثورة المعلومات والتواصل، ولكن العربي في العراق وسورية وليبيا واليمن يحتاج إلى الديموقراطية «فقط» حتى يعيش، وحتى تتوقف آلة القتل التي تحصد مئات الآلاف من حوله.

ولكن العربي بدأ يفقد الثقة بالديموقراطية بعدما كانت مطلبه وأمله. بدا ذلك في العراق باعتصامات المتظاهرين وتعدّيهم على حرمة البرلمان، فكان إعلان شعبي لوفاة تلك الديموقراطية الهزيلة، التي سقطت قبل فوضى التظاهرات التي دعا إليها الزعيم الديني مقتدى الصدر، تحت معول الطائفية والفساد و«داعش». للأسف فإن فشل الديموقراطية في العراق، على رغم أنها موجودة ولا تزال على الورق وفي الدستور، سيكون دليلاً سيستخدمه كل الرافضين لها، إما لمنطلقات دينية وإما تقليدية عتيقة، أو حتى عاشق للاستبداد يقول: لا يمكن حكم العرب بالديموقراطية، أو ليبرالي مزيف يقول: يجب إعداد الشعب ونشر التعليم قبل الديموقراطية. الآن لديهم حجة قوية هي انهيار التجربة العراقية.

مشكلة هؤلاء – أكانوا محليين من أبناء تلك الدول المنكوبة أم أشقاء مؤثرين – أن ليس لديهم مشروع بديل للديموقراطية لتلك الدول، غير «استعادة» النظام العربي القديم، الذي انهار في 2011 بعدما استقر في صور عدة أكثر من نصف قرن، فحسبوه استقراراً ولم يروا أسباب السقوط الكامنة فيه، وهم غير وحيدين في ذلك، فكثير من مواطني تلك البلدان المنكوبة باتوا يقارنون بين حالهم البائسة اليوم وفقدانهم الأمن وتشتتهم في المنافي واحترابهم الطائفي، وبين حالهم زمن الحاكم الفرد، قذافياً كان أم صداماً. في مصر الساخرة دوماً انتشر في «تويتر» وسم: «رجعوا لنا حسني مبارك»! يختصر في كلماته الأربع الكوميديا السوداء من شعب اعتقد يوماً أن فرصته في الانعتاق من بؤس العيش وقلة الوظائف واستبداد الدولة كان في التخلص من رئيس الدولة، على رغم أن وضع المصريين أفضل بكثير من السوري والليبي واليمني والعراقي.

من يريد وقف دائرة العنف هناك عليه ضخ فكرة «الديموقراطية هي الحل»، ولكن لن يكون ذلك قبل اقتناع الأطراف الإقليمية المؤثرة باستحالة استعادة النظام العربي القديم. لقد حصل ذلك عندما اجتمع اليمنيون في الرياض العام الماضي، ومن بعدهم السوريون، فكان في بيان الاثنين إشارة صريحة إلى اعتماد الديموقراطية توصيفاً لدولتهم المقبلة والمنشودة، وأنها آلية انتقال السلطة، ولكن جملاً كهذه يمكن أن نجدها في كل جمهوريات العرب المنهارة. الدستور العراقي الجديد، الذي وضع تحت الاحتلال، يكاد يكون نموذجياً في ديموقراطيته، ولكنه لم يوفر الديموقراطية ولا احترام سيادة القانون ولا حقوق الإنسان. وبالتالي فلا بد من مشروع عربي لنشر الديموقراطية، ترعاه الدول العربية المستقرة، حتى لو لم تكن ديموقراطية. فكرة متناقضة! ولكن هل يملك أحد اقتراحاً أفضل غير الاستمرار العبثي في استعادة نظام عربي قديم لن يعود؟

ففي النهاية ستتوقف آلة القتل في الجمهوريات العربية المنهارة، والأفضل أن نكون مستعدين بمشاريع لها تسهل عملية تحولها وتعزز استقرارها، فبعدما ينجلي غبار المعارك لن نجد مدناً مهدمة فقط، بل مجتمعات متفككة أيضاً، منقسمة طائفياً وعرقياً ومناطقياً، ولن يكون هناك جيش واحد وإنما فصائل وميليشيات عدة، ولا مستبد قوياً يفرض سطوته بالقوة، حينها لا حل لتنظيم تلك الانقسامات غير الديموقراطية الملزمة بقوة أممية أو عربية، تمنع اندلاع خلافات صغيرة تستمر سنوات وسنوات أخرى، وتنظم تلك الانقسامات، وتمهد لعودة حكومة ما مركزية.

أمامنا التجربة الليبية، استنفدت فيها كل محاولات فرض الاستقرار بغير الديموقراطية، من رفض نتائج الانتخابات التي مارسها برلمان طرابلس، الذي طغى عليه الإسلاميون، إلى استخدام القوة وإقصاء الآخر لاستعادة «النظام العربي القديم». بعد احتراب كاد أن يدمر ليبيا واستمر نحو العامين اقتنع معظم الليبيين بأنه لا حل غير الديموقراطية الحقيقية القائمة على التوافق والمشاركة، وذلك بدعم أممي، فعادوا إلى نقطة البداية التي ضيعوها بعد انتصار ثورتهم وإسقاطهم نظام معمر القذافي الاستبدادي.

هذه الوصفة هي ما تحتاج إليه بقية الجمهوريات العربية المنهارة، ومن العبث دعم جهة واحدة لفرض سيطرتها على بقية الدولة (إذا افترضنا أنه بقيت هناك دولة)، فالسلاح الحديث وتوافره يمنع أي طرف من تحقيق انتصار حاسم، فيوفر شرط «حكم المتغلب» الذي كان آلية تداول السلطة التي شرعها الفقهاء من باب الضرورة لا التفضيل، كما أن كثرة اللاعبين الإقليميين والدوليين تسعر الصراع ما لم تتفق، وتجعل انتصار طرف من دون آخر مستحيلاً.

ففي اليمن، على سبيل المثال، أعظم دعم توفره السعودية ودول الخليج له بعدما تضع الحرب أوزارها، ليس ضمه لمجلس التعاون كما يدعو البعض، ولا خطة مارشال ومنح ببلايين الدولارات، وإنما مساعدته بآلية ديموقراطية تنظم تداولاً سلمياً للسلطة، وتجمع مكوناته المتعددة والإقليمية في مجلس تأسيسي، وكذلك الحال في سورية والعراق، ستختلف التفاصيل، ولكن جوهر الديموقراطية واحد.

ليس مهما أن تفرز الأفضل، المهم الآن أن تفضي إلى سلام، وبعدما تستقر الديموقراطية والإيمان بها لضمان السلم والتعايش، ننتقل إلى رخاء التنمية وإعادة بناء الوطن. المهم الآن أن يتوقف نهر الدم.