ليست المرة الأولى التي تتعرّض فيها تركيا إلى تفجير إرهابي أياً يكن فاعله. ولكنْ يبدو هذان التفجيران في وسط أنقرة إعلاناً عن تحوّلٍ في طبيعة الحياة السياسية التركية.
كان العنف دائما أحد أوجه الحياة السياسية في تركيا، لكن اعتباراً من يوم السبت المنصرم فصاعداً صارت الحياة السياسية التركية أحد أوجه العنف باعتباره القوة المركزية القابضة على مجرى الأحداث. صار العنف هو المرايا التي تتجلّى فيها الحياة السياسية بشكلٍ أساسي. هذه علامة سيئة جداً.
في تركيا رئيسٌ للجمهورية لم يفهم بعد، ولا يريد أن يفهم ولربما لا يستطيع أن يفهم، كم أصبح هو شخصيّاً عبئاً على قدرة تركيا استعادةَ مسار تطورها الطبيعي. هذا “الطبيعي” الذي وضعته قيادة رجب طيِّب أردوغان بين هلالين من حيث إنه معها وخلالها بدأ يتشوّه كنموذج لتطور ديموقراطي فريد وريادي في العالم المسلم. بدأ ذلك في الواقع في السنوات القليلة الأخيرة بسبب مزيج من العوامل المتفاقمة.
العنف اليوم، المدني في التفجيرات المدينية والعسكري في الحرب التي جرى توريط الجيش فيها مع الأكراد، مختلف في الزمان. إنه زمن ليس فقط التحوّل السلطوي لسلطة رجب طيِّب أردوغان التي تفاقمت انحرافاتُها اعتبارا من أحداث ساحة تقسيم عام 2013 وما تلاها على جبهات سياسية مختلفة بينها “التطهيران” الكبيران لجهازي البوليس والقضاء، التطهيران اللذان عبرهما انتقلت تركيا لتصبح دولةً بوليسية بدل أن تتكرّس كدولة مدنية بعدما نجحت قيادة أردوغان في إنهاء حكم الوصاية العسكرية التأسيسي منذ قيام جمهورية تركيا.
الجديد في الزمن السياسي التركي الآن والذي عبره تمر الأحداث وآخرها التفجيران هو الانتخابات الأخيرة التي رسمت أغلبية جديدة في البلاد ضد حزب العدالة والتنمية. إنه إذن زمن انقلاب أردوغان على هذه النتيجة بحيلٍ مختلفة لتلافي بدء نقل السلطة إلى تحالف جديد.
في هذا الزمن الجديد الذي يرفض رسميا أردوغان الاعتراف بنتيجته عبر قيامه بتحديد موعد لانتخابات جديدة، في هذا الزمن أعلن الرئيس أردوغان الحرب على الأكراد وفتح البلد على مناخ إرهابي كثيف وغامض بمعزل عن من المسؤول المباشر عن تفجيري السبت.
بدأت تركيا تصبح بلدا منكوبا بأكثر من معنى. هذا البلد الفريد في إثبات قدرته خلال أربعة عقود على علاقة بنّاءة بين الإسلام والحداثة، البلد الذي كان يتخطّى كل محيطه كنمر اقتصادي ولا زال، رغم المخاطر، يتخطّى إيران والعالم العربي وحتى بعض دول أوروبا كاليونان وأسبانيا، هو الآن تحت رئاسة فاقدة لطليعيّتها وسلطوية معاندة وقمعية بصورةٍ خاصة للصحافيين في السنة الأخيرة. وقبل أيام اعتقلت رئيس تحرير صحيفة “زمان” الذي انضم الآن إلى جانب عشرات الصحافيين في السجون ومعظمهم بتهمة “التشهير بالرئيس”… هذا البلد الفريد يواجه حالياً حربين أهليتين دفعة واحدة ويتورّط بحرب خارجية معقّدة على حدوده ومتهمٌ حزبه الحاكم عالمياً بتشجيع ظاهرة أصولية متوحشة هي “داعش” (بات يتهمها بأنها هي وراء التفجيرين! فها هو الوحش إذن يرتدّ على المتهم بـ”صناعته”).
لا تستطيع النخبة التركية أن تشاهد بلدها في هذا الانحدار الخطر، والذي ربما بالنسبة لحاكم معزول حاليا مثل أردوغان قد يتّخذ فيه قرارات متهورة جديدة بل أكثر خطورة داخليا وخارجيا دون أن تفعل شيئا وهي فعلاً تحاول أن تفعل رغم معركتها ضد الشعبوية التي باتت مصدراً “حربَ أهلويّاً”.
لم يكن يوماً عددٌ من أصدقائي الأتراك قلقين ولديهم شعور بالخسارة الوطنية، وليس محض الخسارة السياسية، مثلما “رأيتهم” عندما اتصلتُ هاتفيّاً ببعضهم في اليومين الماضيين. معظم هؤلاء، للتذكير، كانوا من المؤيدين الليبراليّين والعلمانيين لأردوغان الإسلامي عام 2002 ضد الوصاية العسكرية وأصبحوا اليوم من أشد معارضي حكمه البوليسي.
لكل هذا… فقد تكون “مخاطبة” حزب العدالة والتنمية أكثر إفادة من “مخاطبة” أردوغان. وهذا ما حصل عندما تمكّنت حركة الاعتراض في السنتين المنصرمتين من التأثير على آراء العديد من قيادات الحزب وكوادره وعلى رأسهم الرئيس السابق عبدالله غول. وربما الآن، كما قال لي أستاذ جامعي ومعلّق في إحدى الصحف الكبيرة، ثمة حوار من نوع آخر مباشر وعميق يجب أن يبدأ مع كوادر حزب العدالة بمعزل عن الوصاية الأردوغانية… رغم كل تعقيدات العلاقات بين الأحزاب المعارضة.
السؤال الأول في هذا الحوار التركي التركي لم يعد: كيف نتجاوز المأزق السياسي؟ وهذا ما كان عليه بعد الانتخابات الأخيرة. لكن اليوم وحتى قبل انتخابات الأول من تشرين الثاني السؤال هو: كيف ننقذ تركيا؟
تركيا في اتجاه خطِرٍ لم يعد رجب طيّب أردوغان موثوقا في قدرته على معالجته إلا بالمزيد من استدراج العنف. يكفي أن ننظر إلى المشهد الحالي فنجد الرئيس أردوغان مشتبكاً مع الصحافة والبوليس والقضاء تحت عناوين مختلفة لنشعر بفداحة الموقف. هل يمكن أن يكون وضع أي رئيس جمهورية طبيعيا وهو مشتبك ومنذ أكثر من سنتين مع الصحافة والقضاء والبوليس دفعة واحدة؟
حداثة تركيا ستتخطّى أردوغان في النهاية. لكنْ بدأت الكِلفة تصبح كبيرة. وكل التعزية لضحايا تفجيريْ أنقرة.