سيجد اللبنانيون صعوبة في انتخاب برلمان جديد، لأن قانون النسبية الذي اتُّفق عليه يطوي آلية اقتراع اعتاد عليها المواطنون منذ عام 1926، وتقوم على اعتماد الأكثرية في دوائر تضيق أو تتسع وتحكمها التوازنات الطائفية. كانت الديموقراطية اللبنانية الأكثر استمراراً في العالم العربي تشكو من ثغرة الطائفية، لكنها مع القانون الجديد ستشكو من المناطقية والطائفية والزعاماتية اللابسة ثوب أحزاب أو شبه أحزاب. إنها «سمك لبن تمر هندي» بحسب التعبير المصري، وقد أقرّت بإصرار من «التيار الوطني الحر» (حزب رئيس الجمهورية) وبقبول ضمني من سائر الزعامات.
ويعود تمسُّك «التيار» بهذا القانون المعقّد إلى تمسُّكه بحقوق المسيحيين التي «تآكلت» من وجهة نظره في برلمانات ما بعد الطائف المنتخبة تحت الوصاية السورية، لكن السبب الأبرز هو ما رأى «التيار» من ضربات تلحق بالمسيحيين العراقيين والسوريين والمصريين فاعتبر القانون الجديد حفظاً لوجود الطائفة وضرورة لحفظ الكيان اللبناني، ونجح في إقرار هذا القانون بعد نقاشات صعبة مع الزعامات الأخرى وصلت إلى اللعب على حافة الهاوية.
ما يحدث في لبنان ليس مفاجئاً، لأن الديموقراطية في محنة حتى في الدول النموذجية، ففي الولايات المتحدة تؤشر قرارات الرئيس دونالد ترامب المرتبكة إلى أدلجة الصراع بين الجمهوريين، أو من تبقى منهم، والديموقراطيين. هذه الأدلجة بدأت تشكّك في جدوى المجتمع الحر المتعدد القائم على المبادرة أو ما يسمى «الحلم الأميركي». وفي فرنسا فشل مدوٍّ للأحزاب إذ استطاع رئيس شاب اختراق الجسم السياسي ليصل إلى الإليزيه وليؤكد نجاحه الملحوظ في الانتخابات النيابية، كأن الديموقراطية هنا تقوم بمحو ما سبق وتؤسس هيئات سياسية جديدة لم تتبلور صورتها بعد. وفي بريطانيا معادلة صفرية بين المحافظين والعمال تضع الدولة في موقف الحيرة وصعوبة اتخاذ قرار. وفي ألمانيا وسائر أوروبا صراع بين السياسة المستندة إلى الحداثة والعلمنة وشعبوية صاعدة معزّزة بالحساسية من المهاجرين ومجتمعاتهم غير المندمجة، بما يهدد أسس الاجتماع حول الدولة الحديثة.
مع ذلك لا تزال الديموقراطية مطلباً للشعوب المتحررة من ديكتاتوريات وأنظمة شمولية، وهي تعمد إلى دمج الديموقراطية بمعطيات سلطوية موروثة، فالانتخابات في الصين محكومة بحزب شيوعي منفتح على التجارة الدولية وقدر كبير من الرأسمالية، وفي روسيا محكومة بتجديد القيصرية مع فلاديمير بوتين الذي يتبادل الرئاسة مع ديمتري مدفيديف من باب شكلية تداول السلطة. ومثلما في الصين وروسيا، ديموقراطية إيرانية تحت عباءة المرشد بعيداً من الهواء وضوء الشمس.
وفي العراق وسورية مسرح حروب معقّدة بين دولة موسومة بالطائفية وثورة خطفتها جماعات بدائية تقتل الآخر وإن لم يقاتلها، وتبدو هذه الحروب آيلة إلى نهاياتها مع الضربات التي يتلقاها «داعش» في العراق وانفتاح حكام بغداد على العالم، ومع تقدّم محادثات آستانة التي ترسم خطوط وقف النار في سورية تمهيداً لنجاح سياسي في محادثات جنيف. من هنا تعلو مجدداً أصوات العراقيين والسوريين مطالبة بالديموقراطية. والمفاجئ إصدار «الإخوان المسلمين» السوريين قبل يومين ما سمّوه «الميثاق الوطني لمواجهة تقسيم سورية» وفيه دعوة إلى استعادة التعدّدية الثقافية والدينية والعرقية وتمسك بـ «الإخوّة الوطنية التي تجمع السوريين، مسلمين ومسيحيين، عرباً وكرداً وتركماناً، سنّة وعلويين ودروزاً وإسماعيليين. والحرص على العيش معاً في ظل الدولة الوطنية والواحدة، وبنية مجتمع مدني موحّد».
لا تزال الديموقراطية مطلب المنسحبين من قتل شعوبهم والساكتين عن القتل أو الراغبين به. ولكنها مجرد شعار يحتاج إلى تكييفه مع البيئة، خصوصاً أن العالم يتجه نحو شعبوية تنكفئ إلى داخل الدولة ومجتمعها الأصلي. أما العولمة السياسية فربما يبقى لها دور واحد: تصدير الإرهاب بصوره المتعددة.