IMLebanon

العلَّةُ فينا وليست بالنظام

 

إذا كان النظام الديموقراطي، على تنوُّعِهِ وبعض شوائبه الطبيعية والتطبيقية، هو من أفضلِ النظم السياسية في العالم؛ إلاّ أن الديموقراطية في لبنان، تحملُ بذوراً شعبية مشوِّهة تجعلها من الأسوأ، لكثرة ما يعتريها من عورات عند بعض الأفراد، وجنوحاً نحو التسلُّط والقمع عند بعض الجماعات. هذه «البذور» تعاونت لتحوّل لبنان إلى دولةٍ فاشلة، بعدما كان على مدى عقود، قبل أن يُصاب بهذه الأمراض، نموذجاً حضاريّاً وسياسيّاً وماليّاً وإقتصاديّاً… فريداً في محيطه العربي والشرق أوسطي.

 

في ديموقراطيات الشعوب الحرّة، يمارس المواطنون الرقابة على السلطات التنفيذية، ويُسائلونها عبر وسائل ومحطات عديدة، أهمها الإنتخابات النيابية. طبعاً، قد تكون هذه المساءلة حصلت في الإنتخابات النيابية الأخيرة جزئيّاً في لبنان، ولكن بشكلٍ خجولٍ جداً لا يتوازى مع الإنهيار الكبير الذي وصل إليه لبنان؛ لا بل دون المستوى أو المقاييس التي تطبقها الشعوب الحرة إذا ما أخذنا في الإعتبار الحالة المزرية التي وصل إليها الوطن مؤخراً. فهل يمكن اعتبار هذا التقصير، أو الإمعان في التسلُّط علَّةً في النظام الديموقراطي؟ أم أن سبب ذلك هو مرضٌ عضالٌ أصاب بعض الفئات من الشعب اللبناني؟

 

طبعاً، العلَّةُ ليست في الديموقراطية؛ إنما هي حالةٌ مرضية لبعضٍ من الشعب في لبنان. وإلاّ كيف يُفَسِّرُ علماء الإجتماع ظاهرةَ إقبال فئةٍ من المواطنين على تجديد البيعة والولاء لوزراء تعهّدوا منذ عقدٍ ونيّف على إنارةِ لبنان، وبدل من ذلك أغرقوه في العتمة الشاملة ولا يزالون؟ بكلِّ تأكيد، العلَّةُ هي في المواطن الذي قد تتحكم به غرائز شخصية تمنعه، أولاً من محاسبة المسؤول، وتدفعه ثانياً إلى التضحية بمصالحه ومصالح الجماعة، إشباعاً لموروثات تضليلية زُرِعت في مخيلته، ولا يزال يرفض الشفاء لدرجة أنه راغب في توريثها من جديد.

 

العلّةُ ليست في الديموقراطية، عندما تمارس فئةٌ محددة الترهيب على المواطنين لتمنعهم من ممارسة حقهم في حرية الإنتخاب، سواءٌ كان بالعنف الجسدي أو بالأسلحة الرشاشة، في محاولة قمعية لمصادرة قرار الجماعة بالقوة، ورهن مصير هذه الجماعة ومعها مصير الوطن كلّه لمصالح خارجية. إذن، العيب ليس في الديموقراطية، إنما في تفكير أناس يمارسون الديكتاتورية والإرهاب داخل مجتمع راغبٍ في ممارسة حقه في التعبير عن رأيه.

 

ليس العيب في الديموقراطية، عندما تُحاول فئةٌ مسلحة الإنقلاب على الإنتخابات النيابية، بمنع الأغلبية من ممارسة الحكم، تماماً كما فعلت هي منذ ثلاث سنوات؛ إنما العيب في هذه القلّة التي منحت لنفسها حق الـ»فيتو» لتقرر لوحدها مصير شعب بأكمله، فأوصلته إلى الجوع والتشرُّد.

 

في الديموقراطيات الحرة، إذا خسر قائد عسكري معركةً، ترسله الشعوب إلى بيته على الأقل، إن لم تعتقله وتحاكمه. وفي «ديموقراطيتنا» يخسر القائد حرباً فيتحول إلى زعيم؛ وكلما خسر حرباً إضافية ازدادت زعامته ترسُّخاً ليتحول إلى معبود جماهيري. العيب هنا ليس في الديموقراطية، إنما العيب بشعبٍ عطّل كل مقاييس الحرية ليستعيض عنها بالتبعية العمياء للحقد والضغينة، لدرجة أنه بات يعشق السير على دروب الإنتحار حتى لا «يوصم» بـ»عار» الوعي.

 

العلّةُ أن يحتفل شعبنا بذكرى آخر هزيمةٍ عسكرية له في 13 تشرين المشؤومة على أنها انتصار!!! فهل سمعتم مواطناً فرنسياً يوماً يلفظ، ولو خطأً، عبارة «واترلو»، المعركة الوحيدة التي هُزِمَ فيها نابوليون وأدت إلى نفيه بعد عشرين عاماً من الحروب والإنتصارات؟ الجريمة الكبرى أنهم بهذه الأضاليل يشوهون فكر الأجيال المقبلة.

 

العلّةُ ليست في الديموقراطية، إنما بالإختلاف حول مفهومها من قبل جماعتين يتشاركان الحياة في جسد واحد اسمه لبنان. الجماعة الأولى تؤمن بهذه الديموقراطية وبحق الفرد في التعبير عن الرأي؛ وقد تجلى ذلك في الإنتخابات الأخيرة عندما بادرت هذه الجماعة إلى محاسبة قسم من ممثليها وتغييرهم. وجماعةٌ ثانية لا تؤمن بهذا المفهوم الديموقراطي، فاستمرت في نهج اقتطاع قسم كبير من الناس تحت عناوين تخويفية عديدة، لتمنع عنهم هذا الحق، ومعه تمارس التهديد على الجماعة الأولى لمصادرة قرارها. فكيف لهذا الجسد الواحد أن يحيا ويستمر بأجندتين مختلفتين وسرعتين متناقضتين!!! وكانت النتيجة ما نحن فيه من شللٍ وانهيار.

 

لم يعد لدينا إقتصاد ولا مالية ولا دواء… ليس بسبب الديموقراطية والنظام، إنما بسبب العيب في الشعب الذي: إما أنه لم يدرك بعد حجم المأساة التي نعاني منها وتلك مصيبة؛ وإما أنه يدرك ولا يزال مصرّاً على العمل بأجندته الإنتحارية والمصيبة أعظم.

 

لن تساعدنا الأسرة الدولية بفلس واحد إن لم نشكل حكومة من الأكثرية تؤمّن لنا ثقة المانحين الدوليين. والإمعان في رفض هكذا حكومة بـ»الفيتو» المستحدث بدون وجه حق من الثنائي حزب الله-باسيل، أي الإستمرار في النهج التدميري السابق، سوف يغرقنا في مآسٍ كبرى قد يستحيل السيطرة بعدها على لبنان الواحد، لا من قبل فريق ولا من قبل الدولة وأجهزتها التي استنفدت مشكورة معظم طاقاتها حتى اليوم. فاللبنانيون يرفضون العيش وفق أجندة خارجة عن ثقافتهم التاريخية ودورهم في هذا المشرق العربي، فلا تدفعوا بهم للبحث عن خيارات أخرى قد لا تكون بمصلحة أحد خاصة فريق الممانعة.