أثبت اللبنانيون المهووسون دائماً بأية مبارزة أو مسابقة أو مباراة، سواء أكانت في المصارعة الحرة أم في كرة القدم أو كرة اليد أو الكرة الطائرة إلخ أنهم «ديموقراطيون» حتى العظم، بإقبالهم من دون تردد على أية عملية انتخابية تتم دعوتهم إليها… يستوي أن تكون على مستوى النادي الرياضي أو سباق السيارات أو التباري بإطلاق النار حزناً أو فرحاً أو ضجراً وترويحاً عن النفس، فضلاً عن إطلاق رشق من الرصاص لفتح الطريق لهم في قلب ازدحام السير!
بالمقابل، فإن الطبقة السياسية في لبنان «تكره» ـ من كل قلبها ـ الانتخابات، أي انتخابات وكل انتخابات… ومن هنا إنها «تهرب» من واجب انتخاب رئيس للجمهورية، ومن الموافقة على أي قانون جديد للانتخابات النيابية تفسد عليهم فرصة الاستمتاع بالتمديد لمجلسهم الخالد، مرة ومرتين وثلاثاً (إذا استطاعت إلى ذلك سبيلاً..) فالانتخابات في نظر هذه الطبقة، عريقة الإيمان بالديموقراطية، من عوامل الانشقاق بين الأخوة، وبالتالي فهي من مقدمات الحرب الأهلية، والعياذ بالله.
ذلك أن «الانتخاب» فعل تفضيل بين «زيد» و «عبيد».. وهذا مدخل لخلاف قد يتطور فيصير عراكاً، وقد يتفاقم العراك فيصير صراعاً بين عائلتين، أو ربما داخل العائلة ذاتها، وقد يتفجر حرباً أهلية في هذا الوطن الصغير الذي ما زال يحمل في قلبه ووجدانه الذكريات السوداء لمسلسل الحرب/الحروب الأهلية/ العربية/ الدولية التي استمرت دهراً!
على أن الحرب الأهلية، إن هي تفجرت مرة أخرى، لا سمح الله، فإنها ستنهي هذا الوطن الصغير والجميل بشعوبه متعددة الجنسية بدءاً من قبرص وانتهاءً بآخر جزيرة في المحيط المتجمد الشمالي..
أليس من الأفضل، والحال هذه، أن نتجنب كل ما يمكن أن يثير الشقاق بين الأهل من أبناء الشعب الواحد المرشح لأن يصير أمماً شتى!
لكن الشعب العنيد (أو وزير الداخلية؟) أصر على أن يمارس «حقه الديموقراطي» فسمح له بأن يقيم «الأعراس الديموقراطية» وسط حفلات مصارعة فولكلورية ائتلف فيها «الخصوم» في وجه إرادة التغيير فحولوا «الانتخاب» إلى حفلة تنكرية راقصة ليس فيها خاسر إلا.. الناخب الذي كان يمني نفسه بأن يختار ـ ولو لمرة ـ بلديته بالرئيس والأعضاء والمختارين، لكن أهل الطبقة السياسية أفسدوا عليه هذه الفرصة بائتلافاتهم ـ ضده ـ من خارج المنطق ولكن من داخل المصلحة..
لقد أكدت الطبقة السياسية أنها باتت تملك خبرات ممتازة في تدجين الناس بعدما ربطت مصالحهم وأرزاقهم بدائرة نفوذها: أليست هي من توظف المتخرجين الجدد وطالبي الرزق الحلال بالعمل في أي مكان، دائرة حكومية أو شركة أهلية؟
كذلك فهي هي، الطبقة السياسية، المرجعية في مختلف الشؤون العقارية والصحية والمالية (حتى لا ننسى المساومات وحفلات التدليس المصرفية في مواجهة القرار الأميركي بشن الحرب على كل من أيّد أو تعاطف بالكلمة أو بالهمس أو بالصورة مع «حزب الله» وأيّده في جهده لتحرير الأرض اللبنانية من رجس الاحتلال الإسرائيلي ثم واجه الحرب الإسرائيلية، قبل عشر سنوات إلا قليلاً فانتصر وأجبر المعتدي على الانسحاب يجرجر أذيال الخيبة)؟!
في أي حال، فقد أثبت اللبنانيون أنهم ـ جميعاً ـ ديموقراطيون، برغم كل المحاولات لصدمهم، بعضهم بالبعض الآخر… أو لإدانتهم بأنهم ـ جميعاً ـ «مرتشون» يبيعون مواقفهم عبر أصواتهم لمن يدفع الثمن البخس لكرامتهم وأنفتهم.
صحيح أنهم فوجئوا بأن القيادات من أهل الطبقة السياسية قد تحالفوا من فوق رؤوسهم، فألغوا الانتخابات، عملياً، وحوّلوها إلى مهرجان «للوحدة الوطنية»، ومناسبة فولكلورية للتواطؤ على حقهم في الاختيار ولو على مستوى أعضاء المجلس البلدي أو الهيئة الاختيارية! لكن الصحيح أيضاً أن هؤلاء الناخبين قد استوعبوا الدرس: إن «قياداتهم» تبيع وتشتري بهم وعلى حسابهم.. وسيتاح لهم أن «يردوا الجميل» في أقرب انتخابات نيابية، إذا ما سمحت الظروف الكونية بإجرائها.. أليس لبنان مركز الكون، والمبشر بالديموقراطية في الصحراء العربية التي تحولت إلى جحيم للحروب الأهلية المفتوحة؟!
ومن أسف فإن هؤلاء الناخبين الذين تزاحموا أمام أبواب مراكز الاقتراع لا يملكون حق الرأي في الطبقة السياسية الحاكمة التي هربت من الانتخابات النيابية مرتين، حتى الآن، والتي هرب نوابها وما زالوا يهربون من ممارسة واجبهم في التشريع وترك موازنة الدولة مفتوحة على الديون التي تلتهم قدرتها على الإنجاز، فضلاً عن واجبهم في انتخاب من يشغل موقع الرئاسة الأولى في هذه الدولة البلا رأس!
العيب، إذن، فوق وفوق الفوق!