ترتفع الأصوات التي تطالب بتغليب العدديّة على التعدّديّة في لبنان والمنطقة عندما يستشعر بعض مَن يتنعّمون بالفورة الديمغرافيّة بأيّ تغيير جوهري قادم. ولا يخفى على أحد أنّ الديمغرافيا المسيحيّة قد تراجعت في الشرق الأوسط، مع الأخذ بالاعتبار أنّها تقدّمت كثيراً في العالم أجمع؛ لا سيّما إن لحظنا حركة الانتقال إلى المسيحيّة النشطة في بلدان شرق آسيا؛ كالصين مثلاً التي بلغت أكثر من 58 مليوناً في نهاية العام 2010، ومن المتوقّع بحسب ما نشرته صحيفة ديلي تلغراف أنّ عددهم سيتضاعف بحلول العام 2025. وقد يصبح عدد البروتستانت في الصين بحلول العام 2030 أكثر من عددهم في الولايات المتّحدة نفسها. وتنبأ خبير في الشأن الديمغرافي في الصين بأن إجمالي عدد المسيحيّين الصينيّين من مختلف الطوائف سيتجاوز 247 مليوناً بحلول العام 2030، وهو ما يجعل الصين سابقة على المكسيك، والبرازيل، وأميركا، كأكبر تجمّع مسيحي في العالم.
مقابل ذلك، يتّجه العالم اليوم نحو علمانيّة مفرطة، أبعدت الدين عن مفاصل القرارات السياسيّة في مختلف الدّول. ولعلّ هذه الظاهرة قد طالت العالم الاسلامي نفسه مع ما بدأنا نشهده من تشريعات تنحو نحو العلمانيّة في أكثر الدّول تشدّداً في تطبيق الاسلام. مع الأخذ بالاعتبار أنّ التحوّلات العلمانويّة المرتقبة ستطال حتماً الهلال الذي يطوّق روسيا الاتّحاديّة كأفغانستان وإيران وغيرهما من الدّول. لكأنّنا بدأنا نشهد ما صَبَت إليه الثورة الفرنسيّة في العام 1789 التي دعت إلى عقد إجتماعيّ جديد يفصل الدين عن الدّولة في فرنسا، حتّى تعمّم هذا النموذج في العالم. وها هو اليوم يطال العالم العربي، ويطلّ برأسه على الدّول الإسلامويّة ودول الهلال الاسلامي الذي يحدّ روسيا الأرثوذكسيّة، وسيمتدّ من الصين ليطَال دول الجوار كلّه.
ولبنان الـ 10452كم2، ذلك البلد الصغير بجغرافيّته، كبير بامتداداته العالميّة، لن يكون بمنأى عن هذا التغيّر العالمي الذي يعصف بالعالم أجمع. ولكنّ التركيبة اللبنانيّة القائمة على التعدّديّة الطوائفيّة لن تتمكّن من الصمود كثيراً مع سقوط المرجعيّات الكبرى التي ترتبط بها هذه المكوّنات الحضاريّة. من هذا المنطلق، تأتي مقاربة الوجود المسيحي في الشرق عامّة وفي لبنان خاصّة. هذا الوجود القائم على مبدأ رئيسي من مبادئ الثورة الفرنسيّة الثالوثيّة، أعني الحريّة. فما يميّزه عن غيره من الوجودات، إذا صحّ التعبير، هو تلك الارادة الحرّة التي ميّز الله الانسان بها عن سائر المخلوقات، فلا يجوز مبادلتها بأيّ شيء آخر.
وهذه الحريّة التي انتقلت من حالتها الشخصانيّة إلى الحالة الكيانيّة باتت حريّة لبنانيّة بالمطلق. وصارت الحريّة الكيانيّة مرتبطة بالوجود اللبناني الحرّ. فلم تعد تتناسب صفة “لبناني” مع أيّ شخص بشريّ في العالم إن لم يكن حرّاً كيانيّاً. وبذلك تسقط الصفة اللبنانيّة عن الذين باعوا تلك الحريّة كلّهم، لقاء أيّ شيء كان.
من هنا، باتت لعبة الديمغرافية لعبة ساقطة أمام هالة الحريّة الكيانيّة اللبنانيّة. فلا يهدّدنّنا أحد بعد اليوم بأيّ حسابات ديمغرافيّة، لا سيّما في لبنان. فالحريّة باتت أكبر من الديمغرافيا. وصارت مرتبطة تماماً بوجود لبنان في هذا العالم وفي هذا الشرق بالتّحديد. لذلك لا خوف على أيّ مكوّن حضاريّ في لبنان لو بلغت نسبة وجوده الواحد بالمئة؛ ولا خوف من أيّ مكوّن حضاريّ في لبنان لو بلغت نسبته الديمغرافيّة التسعة والتسعين بالمئة.
صحيح أنّ شكل الدّولة في لبنان لن يكون ثابتاً كما هو اليوم، على الأقل في الخمسين سنة القادمة، أو أقلّ. مَن يعلَم؟! لكن الأصحّ أنّ شعلة الحرّيّة هذه هي ضمانة هذا الوطن وهذا الكيان بالذّات. ولن نألوَ أيّ جهد في الحفاظ عليها انطلاقاً من تثبيتنا الفكر المؤسّساتي، ودعم الدّولة، والعمل على تطويرها وتطوير نظامها بشكل يتلاءم، ليس مع بنيتها الدّيمغرافيّة وحسب، بل مع هذه الحرّيّة الكيانيّة التي من دونها لن يكون أيّ وجود لأيّ لبنان كان؛ مهما اختلف شكله، أو نظامه، أو حتّى دستوره!
أمّا أولئك المتباكون على الانحسار الدّيمغرافي المسيحي، والفرحون بالانفلاش الديمغرافي لغير المسيحيّين، فيكفي مراجعة الفورات الديمغرافيّة في التاريخ التي إن استطاعت إحداث أيّ تغيير في هويّة شعب فهي لم تستطع يوماً محو وجدانه، وسرعان ما سيطال هذا التغيير الشعب نفسه عندما تدور الدّورة دورتها مجدّداً. وليس النموذج الصيني الذي أشرنا إليه إلا مثالاً بسيطاً. أو حتّى النموذج السوفياتي الذي أسقط المسيحيّ لصالح العلمانويّة الشيوعيّة التي عاشت فطريّة على جذع الحريّة. عاد وسقط هو نفسه لصالح نظام علمانيّ حقيقيّ يصون الحريّة الكيانيّة. والحريّة الدينيّة هي جزء منها. فهل يتّعظ بعض اللبنانيّين المنتشين بحديد السلاح بمدى توأمة الحريّة الكيانيّة مع وجوديّة لبنان، وليس سلاحهم البخس، أو ديمغرافيّتهم المتحوّرة، أو أولئك الذميّون عملاؤهم؟