من أصل 23 مليون نسمة، هم عدد سكان سوريا، تراجع عدد المقيمين إلى نحو 18 مليوناً، لأنّ 5 ملايين منهم غادروها على مدى الأعوام الخمسة الفائتة. كما أنّ هناك ما يقارب الـ6 ملايين سوري نزحوا إلى مناطق يعتبرونها أقلّ خطراً عليهم في داخل سوريا. إذاً، مع مغادرة 40 في المئة من السكان مناطقهم، طرأت تعديلاتٌ ديموغرافية ملموسة على الواقع السوري. والآتي على الطريق.
كانت حلب تضمّ في بداية الحرب السورية أكثر من 6.2 ملايين نسمة، أي أقلّ بقليل من ثلث التعداد العام للسوريين. وهي أكبر المحافظات السورية من حيث عدد السكان. وكان في حلب المدينة قبل الحرب نحو مليوني نسمة (تتفوّق على العاصمة دمشق)، ويتوزّع الباقون على مدن المحافظة وبلداتها.
في العام الفائت، ونتيجة للمعارك الشرسة المتعدّدة الأطراف بين قوات النظام وحلفائها، مدعومة بالطيران الروسي، والمعارضة السورية «المعتدلة» و«داعش» وعشرات التنظيمات الرديفة، هبَط عدد سكان المدينة إلى نحو مليون، وفق تقديرات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية وجهات أخرى:
750 ألفاً في أحياء حلب الواقعة تحت سيطرة النظام غرباً وجنوباً، نحو 200 ألف في الأحياء التي تتوزّعها «داعش» وقوى المعارضة شرقاً ووسطاً، ونحو 100 ألف في الأحياء ذات الغالبية الكردية شمالاً.
ولكن، في معارك الأسابيع الأخيرة، يُفترض أن يكون عدد السكان قد هبط كثيراً. فقوافل المغادرين كثيفة في اتجاهات مختلفة. وسيكون طبيعياً أن يعمل النظام وحلفاؤه، ولا سيما موسكو وطهران، على تسويق مقولة الممرّات الإنسانية لإدخال المعونات، ولكن أيضاً لإخراج السكان. ووفق الأمم المتحدة، يُقارب عدد المحاصَرين بالنار حالياً في حلب الـ300 ألف، فيما الفصائل الإسلامية تقدّر العدد بنصف مليون.
ويعتقد البعض أنّ المدينة ستفرغ من السكان عند إتاحة المجال لهم لكي يغادروا بأمان، وهذا ما يتحقّق بالممرات الإنسانية والمناطق الآمنة. وتتوقف سرعة إفراغ المدينة على عاملين أساسيين:
1 – إطالة مدى الحرب من دون أفق زمني، وهذا ما تحقّق اليوم. فالنظام و»داعش» والتنظيمات المعارضة تؤكّد جميعاً، على حدٍّ سواء، أنها ستمضي في المعركة حتى تحقيق الحسم، فيما الحسم لا يبدو وارداً حالياً لمصلحة أحد في ظلّ التوازنات القائمة، على رغم أنّ روسيا وإيران تضعان ثقلهما إلى جانب الأسد في حلب.
2 – ترهيب المدنيّين وجعل عيشهم مستحيلاً في حلب. ففصول الترويع التي تسجّلها الضربات الهائلة والمكثفة على أيدي النظام والطيران الروسي في مناطق معيّنة تقابلها جرائم «داعش» والتنظيمات الإرهابية الأخرى في مناطق أخرى. والقاسم المشترك هو الرعب المطلق.
وفي ظلّ استمرار الحرب وترويعها وفقدان مقوّمات الصمود الإنسانية، سيتكثّف تهجير الأهالي. وعندما يدخل النظام وحلفاؤه أحياء حلب شبه الفارغة سيكون مالكاً ورقة مهمّة، هي ورقة السيطرة الجغرافية والديموغرافية في المدينة السورية الأكبر، والتي تشكل الحلقة المفصَليّة ما بين معقل النظام في الساحل وتركيا والعراق. وهذه الورقة سيستخدمها النظام لتكريس موقعه في عملية ترسيم الخرائط التي بات يتوقعها كثيرون.
قبل ذلك، أحكَمَ النظام سيطرته على المناطق الحيوية في حمص وحماه. ووجّهت قوى المعارضة إليه اتهاماً بتعمّد ضرب المخازن التي تضمّ وثائق الملكية العقارية هناك، بهدف إتلافها وإتاحة المجال لاحقاً للتلاعب بالملكيات، في سياق هدف واضح هو تكريس التغيير الديموغرافي.
قبل اليوم، كانت هناك خطوط حمر مرسومة لقوات الأسد في حلب، وحارستُها الأساسية هي تركيا التي لطالما هدَّدت باجتياح الشمال السوري حتى حلب، إذا ما تجاوز الأسد هذه الخطوط. فالأتراك يعتبرون هذه المدينة جزءاً من مداهم الأمني. وفي مراحل من الحرب السورية، فتَحوا حدودهم لتدفّق السلاح والعناصر في مواجهة الأسد.
وعندما دخل الأتراك الحرب بطلب من واشنطن ضد «داعش» في سوريا، كان هدفهم الأساسي قطع الطريق على قيام كيان كردي على حدودهم وتوفير الحماية للسنّة في حلب.
ويبدو أنّ توقيت العملية التي يُنفذها الروس في حلب جاءت في توقيت مدروس بدقّة، في اللحظة التركية الحساسة. فأردوغان منشغل بلملمة الإنذار الخطر الذي تلقّاه من خلال الضربات الإرهابية أوّلاً ثمّ الإنقلاب الفاشل. وربما كان مطلوباً أن يفشل الانقلاب بحيث لا يكون أكثر من إنذار لأردوغان بأنّ استقرار تركيا ليس مسألة محسومة. ويبدو أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جاهز لتلقّف التغيير في النهج التركي واستثماره.
وواضح أنّ تفاهمات أساسية قد ارتسمت بين تركيا وإسرائيل وروسيا وإيران والولايات المتحدة في سوريا. ولولا ذلك لما أُطلِقت يد بوتين والأسد في حلب، بعد دمشق وحمص وحماه. وليس صحيحاً أنّ موسكو تنفِّذ عملية السيطرة على «سوريا المفيدة» لمصلحة الأسد، بمعارضة من الولايات المتحدة.
فهناك مؤشرات إلى أنّ إتفاق واشنطن وموسكو، وتحديداً اتفاق كيري- لافروف، الذي جرى في ظلّه الاتفاق حول النووي الإيراني، أقرَّ بقاء الأسد في «سوريا المفيدة» حتى التسوية السياسية. وبناءً عليه، يستغلّ الروس هذه الموافقة الأميركية لتحويلها عن مفهومها الأساسي وتكريس بقاء الأسد «إلى ما لا نهاية».
وإذ فشل الرئيس باراك أوباما في سوريا، وضاع الوقت الباقي من عهده بلا هدف هناك، فإنه لا ينسى إقحام الملف السوري في المعركة الرئاسية والردّ على دونالد ترامب بإظهار أنه استطاع تحقيق نصر على الإرهاب في سوريا، ولو بتغيير اسم «جبهة النصرة» التي سارعت شبكة CNN إلى استضافة مسؤوليها. وكأنّ تغييرَ الاسم هو الكفيل بعزل هؤلاء عن «القاعدة» التي لم ينسَ الأميركيون أنها تسبّبت لهم بكارثة 11 أيلول.
وإذ يستقيل أوباما من سوريا، تاركاً للخلَفِ أن يتدبَّر أموره في هذا الملف، بعد 6 أشهر، فإنّ بوتين يُدرك كيف يستثمر التراخي الأميركي في سوريا خلال هذه الفترة الطويلة نسبياً لفرض الوقائع الجديدة. وقد يُشجّع على تحريك محادثات التسوية في الخريف الآتي، إذا حقّق نتائج ميدانية حاسمة في حلب، ما يسمح له بفرض نفسه قوياً، هو والنظام، على طاولة المفاوضات.
إنّ إفراغ حلب من سكانها سيُريح النظام من عبء ديموغرافي ثقيل. وستطرأ وقائع ديموغرافية مختلفة في «سوريا المفيدة» إذا ما استمرّت عمليات الإجلاء عن حلب والمدن الكبرى.
ويقول أحد الديبلوماسيين، وهو خبير في الشأن السوري، إنّ آل الأسد حكموا سوريا بغطاءٍ عربي ودولي لعشرات السنين عندما كان العلويون 12 في المئة من السكان، فهل سيعجزون عن القيام بذلك في «سوريا المفيدة» حيث تؤدّي التحوّلات الديموغرافية والجغرافية إلى «تحسين» النسبة بالتأكيد؟
عندما يجزم مسؤولون كبار، تكراراً، وبينهم مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية جون برينان، أنّ من الصعب أن تعود سوريا موحّدة كما كانت قبل اندلاع الحرب، يصبح واضحاً أنّ ما يجري في حلب هو فصل أساسي في مسار التأسيس لسوريا الآتية، حيث الخطوط العريضة باتت واضحة، والباقي تفاصيل…