عاش لبنان أربعين عاماً من دون شارع! فصلت الوصايات، ومعها الميليشيات، الشارع عن الناس. هاوية من الرعب بينه وبينهم. طرقات لا تتنفس. أزقة مختنقة. ساحات محرّمة. أرصفة مسكونة بالخطر. لم يعد الشارع مع الوصايات «مكاناً» في التحرك الحر، بل نهاية له. ولا متنفساً للحضور بل بؤر للتحريم. صادرت الميليشيات «نبض» الشوارع فبات بلا قلب. ولا عقل. ولا أصوات. وحتى بلا أصداء، إلّا ما يصدر عن السلاح، من قرقعة، ومن ضوضاء. ومن معارك. ومن قتل، ومن قصف. ومن منع. كان الشارع مجرد ممر للمشي المقيد بشروط الرصاص، والقنص والاغتيال، وحروب المتقاتلين واستبدادهم وجبروتهم… بمعنى آخر صار الشارع بلا مدينة، وكل شارع بلا مدينة، هو مكان للعنف. والمدينة لا تقوم بناسها وتعددها وأحوالها كمكان للالتقاء، إلا بحرية الشارع وتالياً المقهى، والمكتبة والمدرسة والمسرح والسينما… وحرية الصرخة والقول والاحتجاج…
الشارع للمشي، مصادر، منتهك.
ممنوع التظاهر. ممنوعة الحركة الحرة. ممنوع الاحتجاج. ممنوع الكلام. فكأن للشارع صمت القبور، والأضرحة.
بل تحول قبوراً مكشوفة، ومصائد للقتل وفخاخاً للموت.
هكذا بقي الشارع نحو أربعين عاماً شارع القوى الخاصة، المذهبية الخارجية. كل شارع كانتون. وكل زقاق كانتون. وكل مكان من أمكنته سجناً مفتوحاً. انه زمن الوصايات وزمن الشرائح المنعزلة. لم يعد عمومياً أو شعبياً. أو منفتحاً. بل من أمكنة مذهبية هنا، أو ايديولوجية هناك، وقاتلة عند الجميع.
حولت الوصاية السورية لبنان مجرد «مصحّات» أو زنازين، أو مخافر، تحظر فيه كل اسم ممنوع وكل هامشي حر، وكل تظاهر وتدخل من تشاء اليها، فتحت شوارع لبنان على كل شوارع سورية، لتصبح أمكنة أمنية يسودها أهل القمع، والاغتيال والخطف والدم: يمشي الناس فيها وكأنهم يمشون بين خطوط حُمر أو اشارات مزروعة بكل عناوين الخوف. بل ان الميليشيات ألغت هويات الشوارع المفتوحة (المدينية)، لتسميها بشعائرها وشعاراتها. طيفوا اسماء الشوارع والأشجار والدجاج والأرصفة والحقول والحجارة. فبات عندنا الشارع بكل أموره وأهله إما شارعاً «وطنياً« لا يحق لسوى الوطنيين «الخاضعين» استعماله، وإما شارعاً «مذهبيا«ً مطهراً، منظفاً، مغلقاً على كل من لا ينتمي إليه. شارع على الهوية، يعني قتلاً على الهوية. وخطفاً على الهوية وعنفاً على الهوية واحتلالاً على الهوية، ومجازر على الهوية. وتدميره مدن على الهوية.
[ الوصايات
هكذا كان للوصايات وميليشياتها، من النظام السوري إلى الاسرائيلي، إلى الليبي، إلى العراقي، ان تُطبق على لبنان، لتدمر روحه وعقله وحريته وسلامه واقامته وجذوره وانتماءه… وعندما شرفتنا إيران بمقاومتها «المسيسة» وانضافت إلى هذه الوصايات، وصل بنا الأمر في الثمانينات وحتى عام 2005 وكأننا معتقلون، مرذولون، بلا حول ولا قوة، ولا إرادة، ولا نبض، ولا صرخة. فالشارع في أيدي الطغاة، وشارع يصادره الطغاة يصير طاغية. يصير مكاناً مخصصاً بهؤلاء، وكل اعتراض يبقى مدفوناً في القلب. وكل غصة تبقى مطمورة في الحلق. وكل دمعة تبقى متحجرة في العيون. لا حرية إذاً. لا ديموقراطية. لا حركة. وانما قبول. وانما ذل. وانما خراب. وخراب الأمكنة من خراب الارادات الحية. هكذا كانت أحوالنا حتى لحظة اندلاع ثورة الأرز على دم الشهيد الكبير الرئيس رفيق الحريري والشهداء الآخرين.
صرخة واحدة أطلقها من قُمعوا، من خضعوا بقوة الخوف، ومن ظنوا ان الرضوخ مصيرهم، صرخة واحدة «لا» للطغاة! لا للمستبدين، لا للوصاية السورية، لا لكل وصاية….
[ تحرير الشارع
حطموا جدران الخوف…. ونزلوا إلى الشوارع، مئات ألوف. حرروها للمرة الأولى منذ أربعة عقود ومشوا فيه مشية من بات يمتلك إرادته. الشارع أخيراً مكان للحرية. كل شارع مكان للحرية. أي للجميع، خالعاً جلوده المستعارة. جلوده المسمومة. جلوده القاسية. وهنا بالذات انجاز 14 آذار. لا لقمع الشارع. لا لقمع الصحافة (وبعضها شغوف بالعبودية والارتهان والعمالة!). لا لكانتونية الشارع. لا لأيديولوجيته. لا لمصادرته…. ها هم مئات ألوف يدشنون ولادة الشارع اللبناني (والعربي)، ويعمدونه بدماء شهدائهم. ومن هذا الشارع الحي بالحرية والشجاعة، تمّ دحر الوصاية السورية وجيشها، ومخابراتها وانفاقها وسجونها وجلاديها ولصوصها وقتلتها…«فليكن الشارع للجميع. ليس لنا فقط» قالت 14 آذار. انه عهد جديد. أو انبعاث جديد لبيروت عاصمة الحريات قبل الحرب. عاصمة التعدد والتلاقي والجمال.
[ شارع «حزب الله»
لكن في هذا الوقت بالذات كان على الآخرين من اتباع الاحتلال السوري (مزودين اشارات حُمرا من اسرائيل وايران ونظام البعث)، ان يظهروا في المنقلب الآخر: منقلب الظلامية والهتك ومعاداة كل انجاز لمصلحة الحرية. لا! قالوا. بطريقة أخرى. ارادوا تدمير هذا الشارع، بشعار الحرية. نحر الحرية بادعاء الحرية. اغتيال الديموقراطية بالديموقراطية. سفك السيادة بالسيادة! وكان لهم عندها، ان يستغلوا تحرير المدن والشوارع ليشوهوا معانيها الجديدة والغريبة والخطرة عليهم. وبدلاً من استثمار الشارع كمكان للتعبير الحر، جعلوه، مكاناً لتخريب الحرية والمدينة. ولعل اول غيث هؤلاء «تظاهرتهم» المذهبية (اعادوا المذهبية إلى الشارع بما انهم من سلالة الميليشيات السابقة) وصرخوا «شكراً» سوريا الأسد! شكراً للوصاية. (فأي حزب تحرير يشكر وصاية على بلده أياً كان شأنها) شكراً للجيش السوري الذي سيطر على لبنان، والغى كل قيمه الجمهورية. حزب الوحوش يفتقد نظام الوحوش. إذاً، مرة أخرى يهتف حزب الله «الشارع» لنا. وليس لأحد. بل على الشارع ان يُطوى كخيمة ويُرمى في البحر. ويعني ذلك، ان الشارع الحر، عدوٌ لمشاريعهم الدكتاتورية. يُعيد لبنان إلى براثن الدكتاتوريات السورية، والإيرانية، والإسرائيلية! لا للسيادة! والسيادة تعني ديموقراطية الحركة. لا للتفكير المتحرر، والتفكير الحر يعني ديمقراطية التعدد. ولا للإرادة الجامعة، والإرادة الجامعة تعني ديمقراطية التحرك المختلط. لا للبنان! «ولا للبنان« تعني «لا» للأرض، والحدود، والجيش، والدستور. حاولوا القيام بهجوم مضاد على الأمكنة والناس لتدمير هوياتها الكثرى، لمصلحة «هوية مذهبية قاتلة»! إنه الانقلاب الحزبي الخارجي على كل ما أنجزته ثورة الأرز!
[ 7 أيار
لكن، ولكي يكرسوا هجومهم المضاد على ثورة 14 آذار، وكذلك ساحات الحرية «ساحة الشهداء» وقلب العاصمة، وأن يغيروا خرائط الوصول إلى السلم، والدولة، وكل ما يمت بصلة إلى الحوار، ها هم، يرتكبون انقلابهم الميداني، بعد انقلابهم الأول بخطب «شكراً سوريا» (أي شكراً لإيران! أي شكراً لإسرائيل أي كل من انتهك هذا البلد!)، في قلب العاصمة، وفي الساحة التي انطلقت منها صرخات السيادة والحرية! أي ساحة الشهداء. احتلوا في 7 أيار، بطريقة مزرية، وجبانة، وبقوة سلاحهم (المستورد من الخارج)، أجمل إنجازات الرئيس رفيق الحريري، ليعبروا عن كرههم ورفضهم إياها. استغلوا حرية الحركة ليشوّهوا أماكنها، ليعلنوا بيانهم الرافض ما تحقق. وعبرت ميليشياتهم، وفلول النظام السوري الشوارع بأسلحتها ومدافعها: هذا ما يليق بالشارع: القوة، والاغتصاب، والاستبداد، والعمالة للخارج. هذا الشارع اللبناني، ليس للبنانيين، ولا للأحرار، بل للخوارج والعبيد والمرتزقة. وهو ليس لحرية التعبير بل لحرية الترويع والقمع. وهكذا نفذت جماعة الوصايتين أفكارها بإحراق جريدة «المستقبل» وتلفزيون «المستقبل»… واغتالت في شوارع بيروت أكثر من 80 شخصاً!
[ .. و12 آب
من تظاهرة حزب الله «الشكرانية» إلى 7 أيار الشاروني، كان للحزب، وبعد ذلك، أن يحاول (عبر أحد أفراد غستابو) إحراق تلفزيون الجديد. ثم ولدى تقديم أمينه العام بشكل كاريكاتوري في أحد البرامج التلفزيونية، احتل الحزب الطرقات وأحرق الدواليب، وحطم السيارات، وأشعل الشوارع. نعم! أشعل الشوارع بقمعه. تشفّى منها. رَمدّها. لطخها…
أما التيار الوطني الحر، الذي قُمع مناصروه وسواهم في عهد الوصاية وسجنوا، وعذبوا، ونفي زعيمهم إلى باريس، فها هم يستخدمون الشارع بالطريقة التي استخدمها عملاء الوصايتين: لتسفيهه وتتفيهه وجعله منصة لتخوين أكثرية اللبنانيين والتهجم على الجيش والتهديد والوعيد… من دون أن ينسى زعيمهم الجنرال تبرئته النظام السوري من اغتيال الرئيس رفيق الحريري! كأن شكراً سوريا لازمة كل الذين انقلبوا على إنجازات 14 آذار.. وكأن الجنرال قد نسي أنه عاد حراً من المنفى بفضل ثورة الأرز التي شارك في بداياتها ثم ارتد عليها، وعلى ساحات الحرية (ساهم التيار بشكل رائع في 7 أيار)، وعلى الجيش، وعلى البرلمان، وعلى الحكومة، وعلى الدولة! إنه النموذج الآخر الذي حمل كل مضمرات «حزب الله» في شعارات تحركه المتواضع الأخير: المذهبية، بتصويبه على السنّة، (وهو من أولويات إيران)، التخوينية، ابتذال الخطاب السياسي، سوقية التهجم على قائد الجيش، محاولة ضرب معنويات الجيش وقوى الأمن، عودة إلى الخطاب الكانتوني، والتحريض المذهبي… فهذه كلها سمعناها من «حزب الله»! كأن التيار في تظاهراته هو صوت الحرب الأهلية المستبطن، والذي يستظهره التيار. وكأنها تظاهرة »لحزب الله» بألوان برتقالية. أعطى في خطابه كل ما يريد أن يسمعه الحزب (ويتجنب قوله حالياً). ماذا يعني ذلك، أن التيار الوطني الذي حرر الشارع وزعيمه من المنفى ها هو ينقلب على دوره كدرب للحرية. بل إنه (كحزب الله) استخدم الشارع ضد الدولة، والدستور، والجيش، و14 آذار، أي جرّد الشارع من عموميته، ومن نبله، ودفعه بديماغوجية «حضارية» وجنون، وهلوسة، وهذيان… تصب حُماها كلها على القيم الجمهورية! ونظن أن فحوى هذه التظاهرة هي رسالة من حزب الله إلى «خصومه» في لبنان. بل هي تظاهرة متنكرة لحزب الله بألوان البرتقال!
ونظن أن ما يسعى هؤلاء الطغاة إلى تكراره في الشارع، كحضن لكل المطالب المشروعة، والثورات الحقيقية، قد فعلوه عندما اندلع الربيع العربي. فها هو بشار الأسد، وبعد أشهر من طوفان الشعب على الشوارع مطالباً بإسقاط الدكتاتورية العائلية، يحوّل كل ذلك حرباً طائفية. أي تسفيه الثورة وتصويرها مؤامرة إسرائيلية ضد الشعب السوري. ثم وبعد «فبركة» «داعش» والإرهاب وتدخل حزب سليماني في الحرب دفاعاً عن استبداد النظام ومصالح إيران، ها هم (كما فعل التيار) يتهمون كل خصومهم بالداعشية. (التيار رشق الحكومة ورئيسها بهذه التهمة)، علماً بأنهم حلفاء «داعش» في السراء والضراء فالشارع السوري الذي احتضن. لم يبق منه شيء! كأنما ارتبطت الثورة برمزية هذا الشارع.
وإذا عدنا إلى الثورات في تونس واليمن وليبيا فسلوك أعداء الربيع العربي متوائم: تشويه الانتفاضة الشعبية، وإغراقها في حروب مسلحة، واستنهاض المذهبية والإرهاب، والقبلية… لإجهاض كل حلم بالتغيير. ودور الحزب مشهود له في هذه المهمة (الإسرائيلية الأميركية الإيرانية)، سواء في سوريا، عندما شارك الحزب في حرب فرضها أربابه عليه، ليعم الخراب في «قلب العروبة النابض»، وفي اليمن أيضاً التي حققت ثورتها على علي صالح بطريقة سلمية، إلى أن تدخلت إيران بحوثييها (معادل «حزب الله» في اليمن)، وشوّهت تلك الحركة الرائعة وحوّلتها حرباً مذهبية، بغية الاستيلاء على هذا البلد… كما حاول الفرس تجريب السيناريو ذاته في البحرين، لكن القوات العربية أفشلت المخططات الفارسية الصهيونية في اليمن حيث انهزم العملاء الحوثيون شرّ هزيمة، وكذلك في البحرين… وقريباً في سوريا… وغيرها!
ويمكن القول هنا، أن الربيع العربي بانتفاضاته السلمية جاء على غرار ثورة الأرز… وبحروبه جاء على غرار ما ارتكبه الطغاة، والوصايات في لبنان، وبلدان الثورات السلمية.
بول شاوول