وردت خلال التغطية التلفزيونية الدراماتيكية لتظاهرات ساحة رياض الصلح اعتراضا على فضيحة عجز الطبقة السياسية (وهي هنا طبقة فعلاً) عن حل أزمة النفايات تعابير من نوع “خروج ( الأحداث) عن السيطرة”. في الحقيقة، ورغم الضحايا والنوايا البريئة، لم تكن هذه الحالة التظاهرية خارجةً للحظة عن السيطرة.
المعادلة الأصلية للوضع اللبناني المفگّك كانت ولا تزال وستبقى معادلة “النظام القوي والدولة الضعيفة بل التافهة”. فالخندق الغميق الذي وقع فيه تحرّك مجموعة قليلة وغاضبة من بين قطاعات الشباب الأكثر تعليما وحداثة محفور سابقا في كل منطقة لبنانية وفي كل طائفة لاسيما حاليا طوائف الشارع الإسلامي الثلاث. من البداية كان هؤلاء اليتامى سياسيا محرِجين لا فعّالين.
النظام قوي لأن الشعب اللبناني بأغلبيته لا يريد إسقاط النظام. والثورة الكبيرة التي حصلت عام 2005 هي الثورة الوحيدة في مسلسل الثورات العربية اللاحقة التي رفعت شعار إسقاط نظام في غير بلدها وليس إسقاط النظام اللبناني!
النظام قوي لأن البيئات اللبنانية المختلفة بيئات ثقافة طائفية “غميقة” وأكثر انغلاقا من أي يومٍ مضى.
النظام قوي لأن ما شاهدناه في اليوم الأول في ساحة رياض الصلح لم يكن “شارعاً” بل الزقاق- الزاروب الوحيد الذي تتنفّس عبره شرائح شبابية متقدمة من الطبقة الوسطى أغلبها مهيّأٌ، كفاءةً، للمغادرة والالتحاق بأنظمة العمل في البلدان الغربية.
النظام قوي لأنه يستند على مصالح واسعة ونخبة كبيرة باتت الآن موجودة بشكل واسع في أجهزة الدولة العليا والوسطى ومدعومة من “ميليشيات” الأجهزة الدنيا.
لهذا ما نراه بين الحين والآخر كما في ساحةرياض الصلح هو تململٌ يتنفّس بين تناقضات الطبقة الحاكمة ولكنه لا يستطيع أن يمنع الأوكسيجين عن هذه الطبقة.
يكلّف إنهاء التحرك ضد النفايات قطع طريق في الطريق الجديدة أو في الضاحية أو عند مستديرة عاليه أو في الدورة… عندها ستبدأ التلفزيونات باستخدام كلمة “التطور الخطير” و “الخروج عن السيطرة” لأن المسألة عندها ستتحوّل إلى حساسية طائفية… وهذا هو السلاح “النووي” الذي يدير به النظامُ الدولةَ التي باتت إدارتها أصعب تقنيا عليه بعدما استنفد معظم خيراتها وإن كان بتوزيع “عادل” نسبيا بين نخب الإدارة والتعليم والمرافق المختلفة بما يضمن تمويل كوادر هذا النظام وأحزابه الكبرى.
الشباب المودرن الذين بدأوا تحرك النفايات لا يختلفون كثيرا عن شباب “ساحة تقسيم” في تركيا وميدان التحرير في القاهرة و “وول ستريت” في نيويورك وربما حتى الآن عن طليعة متظاهري ساحة التحرير في بغداد وشارع بورقيبة في تونس وغيرهم من شباب الكتل الطليعيين التي حرّكت احتجاجات رائدة في السنوات الماضية. ولكن في لبنان ( وربما في بغداد) ولأن النظام السياسي أقوى من الدولة، الأول متجذّر بكل مصالحه وعمالاته وعصبياته الداخلية والخارجية، والثانية متضخّمة مفلسة ماليا وفقدت زخمها المؤسساتي “الشهابي” تدريجيا خلال وبعد الحرب الأهلية… لكل ذلك لا مستقبل سياسيا لاعتراضات شباب رياض الصلح وما سيبقى منهم، غير الدم الزكي للشاب الضحية الذي سقط، هو علامة جديدة على تعايش طليعية نخبة شبابية مع تخلّف مجتمع وعلى جرس إنذار للطبقة الحاكمة يرغمها على إدارة أفضل تمنع إحراجها وعلى مزيد من هجرة المتظاهرين إلى الخارج…
حضرت في بيت الدين مساء الجمعة المنصرم استعراض “بار فاروق” المسلّي جدا والذي نجح، بالمناسبة، مصمِّموه في إقامة إطار جذّاب لمسرح كان في زمن انحطاطه، أي رفع المبتذَل إلى مستوى راقٍ ونوستالجي… لاحظتُ أن إحدى أنجح لحظات العمل، إن لم تكن الأنجح، عندما خُتم أحد المشاهد بـ”مشكل” على الطريقة اللبنانية ولعلع فيه صوت الرصاص (وليس الرصاص طبعا) مع إطفاء للأضواء… لم يصفّق الجمهور المتنوّع طائفياً – والمقتدر بسبب سعر البطاقات- فحسب، بل كان منتشيا وحَبوراً بمفاجأة هذا “المهرجان” من إطلاق الرصاص، كأنه يتفاعل مع شيء خرج من داخل مزاجه بل عميقاً من داخل “ثقافته”.
عندما انطفأت الأضواء واندلع الرصاص والحرائق في وسط بيروت مساء الأحد لم يصفّق اللبنانيون المتسمِّرون على التلفزيونات ولكنهم شعروا، رغم الخوف والإحباط ومشهد الزعران المكشوف، أنهم يستعيدون بروفا لـِ”احتفالٍ” تعوّدوا عليه.
… في هذا الوقت كانت الطبقة السياسية، بمحرَجيها وصامتيها، تنهي التحرك الشريف بحركة إرهاب بسيطة جدا بالنسبة لإمكانياتها الضخمة، وكئيبة جدا ومتكررة بالنسبة لنا.
ملاحظة أخيرة: النظام اللبناني القوي هو الذي يحمي الدولة وليست الدولة التافهة هي التي تحمي النظام.