توالي «الحوادث الغامضة» في لبنان وبلدان محور المقاومة، في سياق تستعر فيه الحرب الهجينة بينه وبين المحور الأميركي – الاسرائيلي – الاماراتي – السعودي على نطاق الاقليم، يعزّز الاقتناع لدى قطاع من الرأي العام بأن هذه الحوادث ناجمة عن عمليات تخريبية، وأنها جزء من الحرب. قد تكشف التحقيقات الجارية حاليا الأسباب الحقيقية لهذه الحوادث. قد يكون بعضها ناتجاً فعلاً عن أخطاء بشرية و/أو عن إهمال وفساد. لكن بعضها الآخر، خاصة الانفجارات التي وقعت في مواقع حساسة، كالمنشآت النووية والعلمية والعسكرية أو البنى التحتية الحيوية، هو على أغلب الظن، وكما ثبت بالنسبة إلى تلك التي حصلت في العراق خلال العام الماضي مثلاً، عمل تخريبي أمني – عسكري. غير أن ما يميز قسماً من هذه الانفجارات، ويزيد من غموض أسبابها، هو حرص البلدان التي وقعت فيها هذه الأخيرة على ترجيح فرضية الحادث على فرضية العمل التخريبي، إن لم يكن استبعادها تماماً، على الرغم من الحرب الهجينة التي تشهدها المنطقة، والتي تتخللها عمليات خاصة موجهة ضد مواقع ومنشآت متنوعة مدنية وعسكرية. هذا التعامل من قبل الجهة التي من المحتمل أن تكون استُهدفت بعملية أمنية – عسكرية، بكل ما للكلمة من معنى، أو حتى بحرب حقيقية في بعض الاحيان، هو الذي تنفرد به العمليات «القابلة للإنكار»، Deniable operations، التي تتكاثر في العقد الأخير، ليس في منطقتنا فحسب، بل على صعيد عالمي. ومن البديهي أن الجهات التي تقوم بمثل هذه العمليات تريد تجنب التورط في حرب مباشرة ومفتوحة، أو على الأقل تجنّب الظهور بمظهر المبادر اليها، مع ما قد يترتب في هاتين الحالتين من أكلاف سياسية واقتصادية وخِيمة التداعيات بالنسبة اليها. الجهة المستهدَفة التي لا تقوم بردّ مباشر، بحجة عدم وجود أدلة، أو نفي واقع الاستهداف من أساسه، لا تنوي بدورها الدخول في حرب مفتوحة، انطلاقاً من تقديرها لموازين القوى وحساب الأرباح والخسائر، مع أنها قد تلجأ أيضاً، على مدى قصير أو متوسط، عندما تسمح الظروف بذلك، الى عمليات انتقامية من النمط نفسه، أي قابلة للإنكار. لكن امكانية شروع طرف تعرض لهذا النمط من العمليات في الرد المباشر، اذا رأى أنه لا يستطيع تحمل المفاعيل السياسية والاستراتيجية للعزوف عنه، تبقى قائمة، ومعها احتمال التدحرج نحو الحرب المفتوحة والمديدة.
إذا كان اعتماد تكتيكات الحرب الهجينة، أي اللجوء الى العمليات الخاصة والقوى الرديفة والضغوط الاقتصادية والمالية والحرب السيبرانية والحملات الاعلامية والسياسية واثارة الانقسامات الداخلية لدى الخصوم، وثيق الصلة بعدم القدرة على خوض الحرب وتحمل أثمانها الباهظة بشرياً ومادياً، كما أظهرت التجارب المريرة للقوات العسكرية الغربية في أفغانستان والعراق، فإن القابلية للإنكار، Deniability، التي قد تسنح بها الظروف في خضم بعض الصراعات، قد تزيد من فاعلية التكتيكات المذكورة. التمعن في مجريات الصراعات الجارية في العالم يبرز أمثلة كثيرة عن عمليات – أو حتى حروب – قابلة للإنكار. فالدعم الاميركي للانفصاليين خلال حرب الشيشان، التي تجددت عام 2000، والتدخل المباشر لدى جورجيا لكي توافق على تحويل وادي بانكيسي داخل أراضيها الى قاعدة خلفية لهؤلاء، لم يدفعا روسيا إلى اتهام واشنطن بالتآمر على وحدتها الترابية. هي قررت حصر صراعها مع الانفصاليين. الأمر نفسه ينطبق على الصين التي تعرف أن الاجهزة الأمنية الأميركية والأوروبية قدمت دعماً جدياً ومتنوع الأشكال، بما فيه التدريب على الحرب السيبرانية في بلدان الغرب وفي اليابان، للانفصاليين الايغور من غير الجهاديين، لكنها لم تتخذ إجراءات جدية ضد هذه البلدان ولم توجه اليها رسمياً أيّ اتهامات، لعدم رغبتها في توتير علاقاتها معها، وما قد ينجم عن ذلك على المستوى الاقتصادي والتجاري. روسيا متهمة باعتماد حرب قابلة للإنكار في شرق أوكرانيا حيث انتشرت قواتها الخاصة ومجموعات أمنية تابعة لها، تنتحل جميعها صفة المجموعات الأوكرانية المعارضة لحكومة كييف، ولكن البلدان الاوروبية، على الرغم من علمها بما يجري، لم تتهمها باجتياح أراضي هذا البلد. فمثل هذا الاتهام سيفضي الى فرض عقوبات مؤلمة على روسيا، كتخفيض استيراد الغاز الطبيعي منها، لكن البلدان الاوروبية لا تستطيع ذلك ببساطة لأن كلفة استيراد الغاز من مصادر أخرى ستكون ضخمة. لذلك، هي فضلت أن تتجاهل الواقع. تتعدد الاعتبارات التي قد تؤدي بطرف ما الى الإنكار المتعمد لما يتعرض له من هجمات. قد تكون هذه الاخيرة جيواقتصادية كما في حالة أوروبا وروسيا، أو قد تكون مرتبطة بتقدير لميزان القوى يحمل على عدم الرد للحؤول دون تحمل أكلاف مرتفعة في ظروف غير مناسبة للقيام به. بكلام آخر، قد تؤدي هذه الاعتبارات الى تأجيل الرد أو الى اتباع الاسلوب نفسه، أي العمليات القابلة للإنكار. بناءً على كل ما تقدم، وعلى النتائج السياسية التي نجمت عن انفجار مرفأ بيروت وما تبعه من تأزيم سياسي داخلي واستهداف للمقاومة، وما بدأ يتكشف من مشاريع إقليمية اقتصادية وفي ميدان الطاقة، إسرائيلية – خليجية بإشراف أميركي، تلغي الدور الذي كان يطمح لبنان الرسمي تاريخياً للقيام به بين العالم العربي وأوروبا، لا ينبغي استبعاد فرضية أن ما تعرض له هو جزء من حرب قابلة للإنكار، لم يتضح المدى الذي ستصل إليه بعد.