يُجمع المُحلِّلون النفسيون والخبراء السياسيون والموُرِّخون على إنّ الإنكار هو آخر مراحل حياة الحكّام الفاشلين والطغاة، فبهذه الوسيلة يواجهون قدرهم المشؤوم الذي إستحقّوه وصنعوه لأنفسهم بأعمالهم المُشينة، وبهذا السلاح المُهين للبشرية يتلقّون لحظاتهم الأخيرة قبل لفِّهم بيدهم لحبل المشنقة على رقابهم. وهذا بالفعل ما شهدناه في صورٍ عديدة في الحقبة الأخيرة من تاريخ طغاة المنطقة العربية، حيث رأينا زعماء تعاطوا بعظمة مدانة وحكموا شعوبهم بالحديد والسلاسل والمعتقلات، يسقطون شرّ سقوط على يد الشعوب المُنتفضة التي هبّت للإنتقام منهم على إقترافاتهم بحقها على مدى أجيالٍ وأجيال. الإنكار السياسي لا ينحصر بلحظات السقوط المُريع، بل هو سلسلة من الأحداث تمتدّ لفترةٍ من الوقت قبل حلول النهايات القاسية، وتُشكِّل جميعها محطات من مسلسل إنكاري مقيت ومؤلم بحق الشعوب المُعذَّبة، وقد أسماه سيغموند فرويد “آلية الدفاع” التي يعتمدها الطغاة كاستراتيجية لرفض كل ما يُهدِّد حكمهم ونظامهم ويكشف حقائق خطاياهم وتجاوزاتهم اللاأخلاقية. فالإنكار سياسة قمعية تجاهلية فاقدة للحس بالمسؤولية والأحاسيس الإنسانية ونابعة عن عقل بارد وضمير ميِّت. وحسب تعريف المعاجم، فالإنكار عمل غير عقلاني لأن ممارسه يرفض الحقائق التي لا جدال فيها.
لا تختلف المنظومة الحاكمة في لبنان عن أنظمة الطغاة التي تمرّست بالإنكار اللئيم، وتتميّز بنجاحها بالإستمرار بعملية الإنكار لفترةٍ طويلة نسبياً، وقد تطوّر أداؤها الإنكاري الى أن أصبح خليطاً من لا عقلانية ولا أخلاقية يُسهِّل لها التخطيط الخبيث لمحاولة طمس حقيقة فشلها في الحكم والإدارة ولإسكات منتقديها ومحو أثرهم، وتستمدّ وقاحتها وتمسّكها بالإنكار من حالات الضعف كما من حالات فائض القوة، فالعماء العقلي والضميري لديها وخوفها من الحساب يُكسبانها القدرة على الإستمرارية، فجبن أفرقائها عن مواجهة الحقيقة وعدم قدرتهم على الإعتراف بالخطأ لم يمنعانهم من تجنّب التمادي بالخطيئة المميتة وإصلاح الذات، فتشبّهوا بصفحات الإنكار التاريخية التي مورست بحق عدد من الشعوب، كإنكار القادة النازيين للهولوكوست، وإنكار السلطات الإسرائيلية للقضية وللحقوق الفلسطينية، وإنكار السلطات العثمانية والتركية للمجازر الأرمنية، وإنكار الإنتدابات الأوروبية للمعاملة الوحشية بحق الشعوب الأفريقية، والإنكار الذي تقترفه حالياً السلطات الصينية بحق الأقلّية المسلمة “الإيغوار”، وأهم الإنكارات في تاريخ الإنسانية كان ما إقترفه نظام ستالين بحق الجمهوريات والإثنيات المُلحقة قسراً بالإتحاد السوفياتي من مجازر وإعتقالات وإخفاء وترانسفير.
الإنكار الذي تُمارسه المنظومة الحاكمة في لبنان يتجسّد في الملفّات الإجتماعية والإدارية والسيادية، ولأفرقائها روايات كاذبة لكل إرتكاباتهم، مثل إنكار التيار العوني لفشله الذريع في ملف الكهرباء والطاقة المُصنَّف حالياً أسوأ قطاع بفئته في العالم، كما إنكار المسؤولين الماليين في الدولة، من مصرف مركزي ووزارة مال وخبراء ماليين ومصارف خاصة لمسؤوليتهم في الإنهيار المالي الذي وقع نتيجة ربطهم العمل المالي الفاسد بالسيطرة السياسية لبعض الأطراف على القرار الحكومي والأمني، وتأمين التغطية لبعضهم البعض في الهدر والفساد والتسويات والتمريرات والصفقات على حساب المودعين والمساعدات والإستثمارات التي تهافتت على لبنان بفضل محبة وثقة المجتمع الدولي العالية بالشعب اللبناني. كل هذه الإنكارات ساهمت بإسقاط لبنان الدولة والإقتصاد والمجتمع، ويأتي ليُكمّل حفلة التخفّي والتهرّب من المسؤولية التاريخية بتدمير لبنان، الإنكار الذي يُمارسه الجناح الإستراتيجي للمنظومة، أي “حزب الله”، عندما يتبرّأ من الوضع الإنهياري الذي أوصل البلاد له نتيجة سياساته الإنحيازية التي فرضها على اللبنانيين، من خلال أعماله غير الشرعية، وإلحاق لبنان بمحور الجمهورية الإسلامية في إيران، وتجاوزه السيادة اللبنانية وإرادة الشعب اللبناني وتغطيته عصابات التهريب وإستباحته للحدود مع سوريا. ما يقترفه في هذا المجال لا شبيه له بممارسة صفة الإنكار وتحدّيه للمنطق وللعلم وللفهم وللحقائق المُثبتة، وقد تجلى هذا الأمر بالتمادي في منطقه المُخادع الى حدّ ترداده أن سبب عزل لبنان ودمار قطاعاته هو حصار غير موجود أساساً. إن رواياته الكاذبة في الدفاع عن ممارساته تتجسّد بتوجيه الإساءات للدول الصديقة والداعمة للبنانيين، وبتحرِّيك مجموعاتٍ إرهابية في دول العالم مع إفتراضه بأن كل هذه الممارسات قد تمرّ من دون تحمّل لبنان ضريبة أعماله وعواقبها، وقد ظهر هذا المنطق غير السليم مؤخراً بعد صدور البيان الفرنسي – السعوي المشترك حول لبنان، حيث سارعت المنظومة الى محاولة إستيعاب محتوى البيان الذي يُدينها ويُحمّلها مسؤولية إيصال اللبنانيين الى الدرْك الذي وصلوا إليه، ويُطالبها بالتنفيذ الفوري للخطوات الإصلاحية والسيادية الضرورية لعودة لبنان الى هويته ودوره، ولكي يحصل على الدعم الدولي الفوري. فتلقّفت المنظومة الوحشة الحاكمة البيان كما العادة بالإنكار وبالتلطي خلف فائض قوتها الظالمة المُمسكة بالدولة وخلف عدم قدرة الشعب لإسقاطها في الشارع.
وفي المرحلة الأخيرة، بدأنا نشهد فصول مخطط إنكاري جديد لهذه المنظومة، حين باشرت بوضع العراقيل الدستورية أمام الإستحقاق الإنتخابي المقبل، من خلال تقديم الطعون التي لا فائدة منها للشعب بل تُمثِّل حرصاً منها على مصالحها وعلى بقائها في المجالس، وتسلطها على القرار. إن لجوءهم الى سلاح الإنكار يسمح لهم الإدعاء بأن مصلحة الإغتراب تنحصر بالإقتراع لنواب مُخصّصين له بدل المشاركة في العملية الإنقاذية لبلده وتخليصه من براثنها، فبالرغم من حقيقة أن الإنتشار اللبناني القسري يُنادي ويصرخ يومياً للحفاظ على حقه بالمشاركة في إختيار كافة نواب بلده، يستميت فريق من أفرقاء المنظومة في منعه من ذلك وحشره في إختيار ما لا تأثير له في تحديد هوية البلد الثقافية والحضارية.
إن الإنكار لدى المنظومة الحاكمة سيُعمّق جهنّمها وسيُصعّب الحساب عليها، وتمرير الوقت الذي تجهد لكسبه لنفسها لن يُنقذها، فالإنكار الوقح الذي تستخدمه كسلاح أخير قبل حلول آخرتها المُنكرة، سيُكوّن مستقبل إنكار الشعب لإنتمائها له.