IMLebanon

رحيل الشاعر الكبير عصام العبدالله

 

 

غادرنا أمس أعزّ الناس على قلبنا، وأجمل الشعراء، وأنبل الخلق، وأصفى السرائر، وأحبّ الكلام، وأحرّ المعشر، وأظرف الحضور. إنّه صديق عمري عصام العبدالله، وظليل بيروت، وشارع الحمراء، بمقاهيه من السعبينات حتى اليوم.

 

من الجنوب ورث رحابة القرية، ومن مدينته المعشوقة بيروت غرف معنى المدن، وأنسها، وتناقضاتها، واختلافاتها، وإبداعها، وحرّيتها، ومدنيّتها.. أكثر من خمسة وأربعين عاماً، معاً؛ في الحروب، والخراب، والدمار، والعتمة، والعنف، والكراهية، والإنكار، والميليشيات، والاحتلالات. كل هذه الجلجلات قطفناها معاً، مع عصام، وهامشيين، وغير “منتمين” إلى هذه الجنون الأخرق السائد. كنّا معاً، في المقاهي نحتمي بلقائنا من عبثيّة ما يجري حولنا، وقدّامنا، وأبعد منّا.

 

وفي منزلي، الروف، حيث كان الكثير من “ربع” عصام أو عشيرته، وأقرانه وأشباهه، يأتون، فنستمدّ القدرة على تجاوز الأهوال من بعضنا، من “الهورس شو”، إلى “الاكسبرس”، إلى “المودكا”، إلى الكافيه “دو باري”، فإلى “مقهى البحر”… وصولاً ‘لى “مقهى علياء”. جميل المقاهي عصام، وقمرها، وأصولها، صار له، على امتداد السنوات “شلّته” من هؤلاء الهامشيين كتّاباً، وفنانين، وشعراء، من حسن عبدالله، إلى علوية صبح، إلى طارق ناصر الدين، فشوقي بزيع، وجودت فخرالدين، وهيثم الأمين، وصولاً الى عباس بيضون…

 

شلّة مقاهي الحمراء. وما أجملها. وما أحبها. كان عصام «جامعها»، ورأسها، وقلبها، يعرف كيف يجعل من «الجلسة» التي كانت تكبر أحياناً، ملاذاً للمختلفين، و«محجّة» لمتعدّدي الأفكار والأحوال.

 

كان شاعراً مميزاً، خاصاً، كتب العامية بدون أن يقع في العمومية، والسهولة، وإيقاعات الأغاني والمواويل. ذلك، أنّه جمع بين ثقافتين شعريتين واسعتين، الشعر الفصيح الحديث، والشعر العامي الحديث. ألفته المؤنثتان، يأخذ من الشعر المكتوب عمقه، ومن أوزانه تنوّعه، ومن قصيدة النثر حريّتها، ومم التفعيلة خصبها وجدّيتها. كأنه رفع قصيدة جديدة على أسس الرواد، من ميشال طراد الى سعيد عقل، الى الأخوين رحباني، فإلى إيليا أبو شديد، وموريس عواد. كان لغة خاصة بين تلك اللغات، لا يفرّق بين محكية، ومنظومة ونثرية. يتابع الشعر الجديد وقبله الحديث، بحس منفتح، وبإيقاعات نضرة، وبنيات غير مسبوقة.. إنه الصادم بلا صدام، والمفاجئ على إلفة، والمخترق بمرور الانتقال.

 

ولهذا، من الصعب جداً، تصنيف شعره، فلا هو المغنى، ولا هو المناسبي، ولا هو المتبع، ولا هو التنظيري.

 

وفي حين أن معظم شعراء المحكية، (أو العامية) اختاروا القصائد القصيرة، سواء جمالية، أو ذات محمول فكري، فهو، كتب القصيدة الطويلة، بجمالية تتجاوز شكلانيتها، وبعفوية تتخطى تبسيطاتها، وبمدلولات بوليفينية، متعددة المداخل والمخارج، من دون وقوع في غموض ملتبس، بل كأنما وراء شعره غيوم… غيوم عليك أن تتابعها لكي ينقشع ما ينقشع من حالاتها، وأوصافها، وإيحاءاتها، ومداركها. وهنا بالذات يمكن التوغل في مدارات عصام وتأثيراته: فهو لم يقتصر بثقافته الشعرية على المنابت اللبنانية، بل على ثقافة شعرية عربية قديمة وحديثة، من المتنبي، الى أبي نواس، فالبحتري، فأحمد شوقي، وبدر شاكر السياب، وأدونيس، ومحمد الماغوط، وعبد المعطي حجازي، وسركون بولص، وسعدي يوسف… اختزن كل هذه المفارقات العربية (وغير العربية)، ليكون شاعراً لبنانياً ذا أفق ثقافي عربي. وهذه الصفة لا نراها عند كثيرين من شعراء المحكية في لبنان، الذين حاولوا التنظير لقصيدة «لبنانية» خالصة.

 

شاعر «قهوة مرة»، و«سطر النمل» و«مقام الصوت» اخترق شعره «جمهور» العامية، ونخبة القصيدة العربية الحديثة. فكأنما جمع بين الحضورين، بعمق التجربة الإنسانية، والجمالية، وبهذا المعنى، فإنه تميّز بنقل الشعر العامي من «الشفوي» (المرتجل أحياناً) الى الكتابة. وهذا يُفسّر طبيعة قصيدة عصام، وبنيتها المركّبة، غير المباشرة، المليئة بإيحاءات الصورة، وإيماءات الإيقاع الموسيقي النابع من كلية الحالة، بحيث لا يطغى واحدها على الآخر… وربما لهذا السبب عصت قصيدة عصام على الأغنية، وعلى الطرب، لأنها، بتركيبتها الداخلية، تحتاج الى قراءة متأنية ومتأملة، وخاصة…

 

لم يكن عصام غزيراً كسواه؛ لكن القصائد المصوغة، حملت كل ما يمكن أن تحمل دواوين أكثر، وتجارب أعم. قال شعره؛ تجربته، تميّزه، وصمت طويلاً…

 

لكنه غادرنا غير مقل بشعريته الأخرى، أي حضوره، وهامشيته، ونبله، وظرفه، وإلفته، ووفائه (وهو رمز الوفاء لأصحابه)، كأنما كان يكمل تجربته الشعرية في الشارع، والمقهى، وفي بيته، وخصوصاً المقهى (بيته الثاني). يكفي أن يحضر عصام «مجلسه» اليومي في المقهى، حتى يفوح حضوره بالإلفة «الشعرية»، ويعطر الأنس، والاستماع، والإصغاء، والمشاركة التي تحوّل كل خلاف على الطاولة.. الى ضحكة… مُرة هنا، وعامرة هناك.

 

غادرتنا يا صديقي، لتلحق بأحبّة لنا، من شعراء وكتّاب سبقونا الى حجراتهم الأخيرة، من عصام محفوظ الى أنسي الحاج، الى محمد العبدالله، وموسى وهبه، وعادل فاخوري…

 

أهكذا «يسقط كل أصدقائنا من القطار؟»، ليبقى من يبقى على المحطة الأخيرة… ينتظر ما ينتظر، من وجوه تأفل، ومن قامات تختفي، ومن أصوات تصمت.

 

لكن رحيلك يا عصام، كأنه من أقسى التجارب عليَّ. لم أفقد شاعراً فقط، أو زميلاً، أو رفيقاً، بل فقدت أخاً أعزّ من كل «الاخوان»، وقريناً أعزّ من كل الأقران.

 

سأفتقدك كثيراً عندما أمرّ بآثارك في هذا المقهى أو ذاك، أو على الرصيف أو ذاك، أو عندما ألوح «لشلتك» من بعيد ومن قريب، لأتذكر صورتك، بينها، ويدك ترتفع لترد تحيّتي بأجمل منها!

 

تعازيّ الحارّة الى السيّدة زوجتك، وأبنائك، وأصحابك!

 

لكن في النهاية: مَن يُعزّي مَن؟

 

بول شاوول