هذه العيون الثاقبة التي يوجهها المسؤولون وبعض من مستشاريهم إلى ودائع المواطنين في المصارف، الكبير منها والصغير، وفي نظرهم الزائغ، أنها بديل ما نهبته الدولة بأركانها الأساسية، وما «استدانته» من المصارف، بالأصالة وبالوكالة وكأن هذه الودائع هي كل ما تبقى في خزائن الوطن الفارغة، من مال تسدّ به ما سرقه السارقون منتحلين صفات وتسميات ومراكز مختلفة.
وبعد أن أوقعوا ركائز الدولة وتلهفهم كل موجوداتها المالية، أجبروا المصارف وأغروها على اقراضها لمتطلباتهم وانتهاكاتهم وغرفهم لما تيسّر لأفواههم وجيوبهم ومطامعهم من مال المواطنين وجنى أعمارهم ومدخراتهم لآخرتهم ومستقبل أولادهم، وها هم اليوم بكثير من فئاتهم وجهاتهم تتجه أنظارهم وأفكارهم ومخططاتهم التي يستر الكثيرون منهم بها بعضا من عوراتهم الفاضحة، يتجاهلون حقيقة هذه الإيداعات التي أئتمنوا الدولة العامرة عليها، مستندين إلى ما يفرضه عليها الدستور والقانون اللبناني والوجدان الوطني، والخلق الكريم.
ويتناسون أنها مال أودعه من بذلوا عرق السنوات الطويلة حتى تكوّنت لهم ولعائلاتهم حصيلة من كدهم وكفاحهم سواء في لبنان أم في بلاد الاغتراب في البلاد العربية إبان أوائل نهضتها، وفي البلدان الأفريقية أيام كانت توصف بالمجاهل، وفي أرجاء العالم الاغترابي بأسره خاصة تلك البلدان في مجمل القارة الأميركية التي كانت امتدادات عملية متاحة لكل من قست عليه ظروف بلاده ومن بينها لبنان الذي تكوّن من أبنائه الهاربين من دنيا العوز والمجاعة وصعوبة العيش.
فتمكنوا من تحقيق جنى عمر كامل بعضا من الثروة المتفاوتة في أحجامها، وكان نصيبهم أن أودعوا في بلادهم وفي مصارفها المزدهرة الباهرة، وبوحي من ثقة برّاقة دفعت بهم وبالجميع إلى ائتمان الدولة اللبنانية عليها، وكلهم اطمئنان إلى أنها في طليعة المواقع الإئتمانية الآمنة، هؤلاء هم من تتجه إليهم عيون بعض المسؤولين التي لم تعد ترى في لبنان إلاّ هذه الإيداعات البريئة من كل ما طاولها من جشع بعض العيون والمطامع، متجاهلة ثروات البلاد وخباياها وخفاياها من ممارسات السلب والنهب التي طال زمانها وامتد إلى هذه الأيام التي اشتدت عليها أعمال طاولها النصب والاحتيال.
وتمركزت هذه العيون وهذه المطامع على أموال الناس في صلب الأماكن الموثوقة التي توفرت لهم وحماها الدستور والقانون والقواعد المصرفية والضمير الوطني العام، إضافة إلى ثقة أولاها لها الجميع ضاعت وسط هول الأحداث الإقتصادية والمالية المستجدة، وهي إن تمت عملية نهب أموال المودعين، فستذهب بالثقة التي سبق أن حازت عليها مراكز الإئتمان المتمثلة خاصة، بالمصارف التي امتدت واشتهرت وذاع صيتها بين البلدان والناس ومراكز السمعة الحسنة.
وباتت لها مراكز وفروع وامتدادات إلى الخارج، وحازت على ثقة مواطنين متعاملين أجانب، كانت خيارهم الأمثل الذي يفضلونه داخل لبنان وخارجه، عن كثير من المراكز المصرفية الدولية ذات التعاملات الكبرى، فكان ما شاع عن الوضع المصرفي اللبناني عن حسن الأحوال والركائز، خير موجّه سارت نحوه ثقة المودعين اللبنانيين والعرب والأجانب، فضلا عن شركات لبنانية وعربية ودولية معروفة كانت البنوك اللبنانية مركزا لتأسيسها وتنميتها وحماية أرباحها وإيداعاتها.
فإلى أصحاب العيون الزائغة التي ضاع منها التركيز الصائب: ودائع الناس ليست هدفا صائبا تعتمدونه لتصحيح الأوضاع الاقتصادية اللبنانية التي باشرت عملية الغرق في بحار الإفلاس، ولبنان كما يؤكد الكثيرون منكم ومن سواكم ومن كبار المسؤولين اللبنانيين، الحاليون منهم والسابقون، ليس بالبلد المفلس، هو بلد حافل بالثروات والطاقات وإمكانات العمل الإقتصادي المالي والتجاري المثمر والمعطاء، هو بلد أكّد الكثيرون منكم، أنه بلد منهوب في كل جهاته ومواقعه القابلة لاقتناص ما أمكن من ثرواته وطاقاته، وبإمكان أنظاركم الزائغة أن تصحّح وتركّز على أهداف موجودة ومؤشر عليها ومطالب بإصلاحها وتصويب أوضاعها.
وهذه المطالبة مستمرة منذ سنوات ومركز عليها حتى الآن، وفي هذا الإطار نعيد للمرة الألف بين كثيرين ممن وجهوا اهتمامهم ومطالبهم إلى جملة من الأهداف الإقتصادية المصححة والمنشطة والوفيرة العطاء السريع والمجدي، مجددا: وجهوا انظاركم الزائغة إلى الكهرباء وإلى الممرات الحدودية وإلى المرافيء والمطار وإلى الأملاك البحرية والنهرية وإلى ما تملكه الدولة العلية من عقارات في أهم المواقع اللبنانية، وإلى مشاريع كلفتنا وتكلفنا ملايين الدولارات.
وهي اليوم تغوص في بحار من المطالب الشعبية والوطنية المختلفة التي تطالب بإنفاقها وتحويل أموالها الضخمة إلى مراكز الضعف في اقتصادنا الوطني ونعني منها خاصة ما يلاقيه مشروع سدّ بسري من معارضة شعبية ورسمية كاسحة تجمع بين رفضه لكلفته الإقتصادية العالية، ولثقوبه وعيوبه البيئية التي تجعل منه مشروعا حافلا بالأخطار والأضرار، ونكتفي بهذه الأهداف السريعة التي يمكن تحويل أنظار العيون الزائغة إليها، كفى الوطن والمواطنين ما لاقاه من سوء توجهاتكم وكثير من تصرفاتكم، والهدف لا يمكن أن يكون إيداعات المواطنين الشرفاء. صوبوا أنظاركم ومطالبكم على الأماكن الدسمة الأخرى التي يحفل بها الوطن بكل ما يغلفها من مآخذ الفساد.