في البدء كانت الودائع، ومعها الفوائد الخيالية التي استدرجت المزيد منها. وفي الطريق كان الفساد والنهب المنظّم. وفي العام الـ25، انهار الهيكل على من فيه. هي باختصار حكاية طبقة سياسية وفريق مالي أفلحا في دفع لبنان إلى تصدّر مرتبة الدول الفاشلة، ولا يزالان في حال انكارأو تجاهل لكل ما له علاقة بمصالح الشعب، ومصيره.
اما قصة الناس فجاءت معكوسة. في البدء كان الانهيار، الذي صحّاهم من حلم جميل استمر نحو عقدين ونصف العقد. وفي الطريق، خرجت المطالبات باستعادة الأموال منهوبة من خلال إنفاق أقرّ بالتضامن والتكافل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، بينها سنوات لم تكن فيها موازنات ولا رصد لانفاق 11 مليار دولار. واليوم بلغوا مرحلة البحث عن الودائع التي اكتشفوا فجأة أنها تبخرت بين ليلة وضحاها.
وفي رحلة البحث تلك، يصطدمون بإجابات من الساسة والمسؤولين الماليين والخبراء (وما أدراكم من هم الخبراء) المرتبطين بهم تتوزع على أنواع خمسة:
الأول، يستغرب الحديث عن الودائع بحجة صدقيّة النظام المصرفي اللبناني الذي لم يتخلف يوماً عن إعادتها لمن يطلبها، من دون أن يشرح لنا أين هي اليوم، باستثناء التأكيد على أن 120 مليار دولار منها موجودة لدى المصرف المركزي. وهذا الأخير، كما تبيّن، ليس سوى مغارة، لا يعرف أحد أياً من أرقامه، باستثناء ما صرح عنه رياض سلامة عن وجود 30 مليار دولار تحت تصرفه، علماً أن الجميع يعرفون أن 18 ملياراً منها احتياط الزامي على البنوك لا يمكن مسّها، ما يعني أن ما تبقى للمودعين بالكاد يلامس الـ12 ملياراً، استخدم أخيراً مليار ونصف المليار منها لسداد استحقاق اليوروبوند في 29 تشرين الثاني الماضي. وهذا يؤكد أن ودائع الناس في خطر، وتطمينات القيمين عليها غير كافية.
الثاني، يقول بملاءة ممتازة للمصارف، أفضل من مثيلاتها في كبريات المصارف الأميركية والأوروبية، من دون أن يعلم أن القول بوجود الودائع في المصرف المركزي في الوقت الذي يؤكد فيه هذا الأخير أن ليس لديه المال، فهذا معناه أن الودائع المشار إليها لا يمكن عدّها سيولة جاهزة للاستعمال.
الثالث، يقول إياكم والـCapital control ، بمعنى السيطرة على الرساميل، وتحديداً منع خروجها من لبنان، مشيراً إلى أن قانوناً يشرّع هذا الأمر لا يمكن إقراره، حتى وإن كان يُمارس عمليّاً، إنما على المواطن الذي يُمنع من سحب ماله من فروع المصارف ليضعه في جيبه. المشكلة أن القيمين على هذا الأمر، في حال استمروا على هذا المنوال من السلوك، لن يُبقوا على رساميل للسيطرة عليها (no capital to control).
الرابع يقول، ربطاً بالنقطة السابقة، باستحالة تخفيض الفوائد (الأمر الذي طالبنا به لسنوات)، بحجة أن الودائع يمكن أن تهرب إلى الخارج، علماً أن الجميع يعرفون جيداً أن هذه الودائع عاجزة عن المغادرة، لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا. فما سر التمسك بعدم خفض الفوائد؟
أما الخامس، فيحذر من إعادة هيكلة الدين، مؤكداً على أن لبنان ملتزم دفع كل مستحقاته. لكن ما لا يدركه كثر، ولا تجرؤ قلة عالمة على الإعلان عنه هو أن الدين العام اللبناني (100 مليار دولار على الدولة و35 ملياراً على المصرف المركزي، بما مجموعه 135 مليار دولار) يساوي 254 في المئة من الناتج الوطني (المقدر بـ55 مليار دولار)، النسبة الأعلى في العالم أجمع.
المشكلة اليوم أنّ كل الإجراءات التي سبق أن اقترحناها لإعادة هيكلة الدين وتخفيض قيمة خدمته في الموازنة، ومعها الإجراءات الإصلاحية للسيطرة على العجز، كلها أصبحت ثانوية في ضوء انهيار القطاع المصرفي وغياب الشفافيّة حول الودائع التي لا يمكن لأحد الجزم كم تبقّى منها.
يبقى الحرم الأخير الذي يُحظر على أحد مقاربته: المساس بسعر صرف الليرة اللبنانية. حُرم كلّف اللبنانيين فوق الـ45 مليار دولار دخلت جيوب من أُعطي معلومات مسبقة للمضاربة على الفوائد، وأغلبهم ومن الطبقة السياسية وحاشيتها، بدل تحرير سعر الصرف بتكلفة مليارين أو ثلاثة مليارات دولار. تحرير لو حصل، لكان لدينا اليوم قطاع نقدي مستقر بتكلفة مضبوطة.
هذا باختصار واقعنا. الدولة مفلسة، وهذا بات محسوماً. الأولوية اليوم للعمل على محاولة انقاذ الشعب من الإفلاس. مصير الودائع قضية مركزية. وحده استردادها يمكن أن ينقذ الناس من المصير الأسوأ. يليها استرداد الأموال المنهوبة. في هذه الأحيان، يتم التفاوض حول شكل الحكومة والمحاصصة اساسها، وكأن المنتفضين في١٧ تشرين حشرات أو غنماً. منذ الان وصاعداً: أما ان تثور الثورة، او يكون الثائرون غنماً لمئة عام مقبلة. ولكل حادث حديث.