يتجاهل عرابو المحاصصة وأركان ممانعتها ما أفضت إليه الإنتخابات النيابية من متغيّرات، وربما يحاولون إقناع الذات أنّ ما جرى في الخامس عشر من أيار لم يكن سوى استعراضاً أو محاكاة (Simulation) لإنتخابات نيابية، وأنّ ما بعد هذا التاريخ هو كما قبله، فالحياة السياسية وقواعد الإشتباك المتعارف عليها باقية على حالها ــ طبعاً ليس المقصود هنا فقط وصول لبنانيات ولبنانيين من الحراك المدني الى الندوة النيابية بل انتصار حَمَلة الخطاب السيادي وكلّ من سمّى الوصاية السورية والإحتلال الايراني بأسمائهما ـــ أجل إنّ الحدّ الأدنى من مراقبة هذا الردح من فوق السطوح الذي يتناوب عليه التيار الوطني الحر وحركة أمل وحزب الله لا يوحي بأقل من ذلك.
خطاب الفرقاء الثلاثة موجّه بالدرجة الأولى لإرضاء جمهور كلّ منهم، والتأكيد أنّ ألاوزان لا زالت على حالها وأنّ ما أُخذ عنوّةً في السابق أضحى من الأصول الثابتة التي لا يمكن التنازل عنها، وهو بالدرجة الثانية أداة التقاذف المتاحة فيما بينهم لاستدراج العروض ووضع قيود وإلزامات التحالفات المقبلة، والتذكير بما هو مقبول وغير مقبول. اللغة المستخدمة تتّسق مع أدبيات كلّ منهم، آثر حزب الله كعادته استخدام أدبيات التخوين وهو بدأها فعلاً على لسان رئيس كتلته باستحضار توصيف الدروع الإسرئيلية، كما جاء إلقاء الحدّ من قِبل كتلة التنميّة والتحرير بإعلان سرمديّة الرئيس نبيه بري في رئاسة المجلس النيابي ـــ ونقطة على السطر ــ ليفتح بعدها النائب الخفيف الظلّ جبران باسيل باب الإرتجال بتحديد شكل الحكومة والمطالبة بحقيبة الطاقة كشرط لتسميّة نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة مستبقاً كلّ الإجراءات الدستورية. منطق التخاطب بين الكتل الثلاث دونه سنوات وتراكمات من فساد على حساب المال العام وفشل سياسي وإقتصادي لا متناهي إستند الى أكثرية نيابية عطّلت السلطة التشريعية وصادرت السياسات الحكومية وتظلّلت رئاسة جمهورية إنقلبت على الدستور.
إنّ النظر الى مخرجات الجلسة الأخيرة للحكومة لا سيما المصادقة الفرط صوتية على مذكرة السياسات الإقتصادية والمالية، والورقة المستقلة بشأن استراتيجيّة النهوض بالقطاع المالي – بالرغم من الفشل المشهود في تنفيذ حزمة الإصلاحات الهيكلية التي أُبرمت مع بعثة صندوق النقد الدولي – يؤكّد الإمعان في تحميل اللبنانيين تبِعات التمويل السياسي لأركان السلطة، ويدلل في الوقت عينه على حجم العقبات التي تنتظر أي محاولة إصلاحية حقيقية.
تُقرّ حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في مذكرتها الإنقاذية بأنّ القطاع المالي تعرّض إلى ضرر كبير، جراء الركود الإقتصادي العميق، وتدهوّر سعر الصرف، وانكشاف ودائع المصارف التجارية لدى مصرف لبنان، لكنها تصنّف الخسائر التي تتّعدى 70 مليار دولار، كفجوة لدى النظام المصرفي حصرياً، رغم اعترافها بأنّ الخسائر ناجمة عن تخلّف الدولة عن سداد الديون السيادية نتيجة سياسات مالية غير منتظمة على مدى سنوات عديدة. كما تتجنّب حكومته في الوقت عيّنه إظهار أي موقف رسمي أو إشارة إلى المطلب الإقتصادي والمصرفي بأولوية تأسيس صندوق إستثماري للأصول السيادية، يضمن مساهمة الدولة في حمل الجزء الوازن من الفجوّة المالية، باعتبارها الجهة المدينة بنحو 100 مليار دولار، وذلك بتمويل رئيسي من البنك المركزي وجزئي من البنوك وسندات الدين الدولية البالغة نحو ثلث الدين العام، والمحمولة من مؤسسات محلية وأجنبية، ومشرعَة عبر موازناتها السنوية.
يدفع هذا الى التساؤل حول الجدوى من توريث أيّة حكومة مقبلة خطة إنقاذ مستحيلة أو الجدوى من تجاهل السلطة التشريعية الجديدة المعنيّة بإقرار أي خطة إنقاذية، سيما أنّ صندوق النقد الدولي يتابع التطورات اللبنانية وهو يعي تماماً ما أفضت إليه الإنتخابات النيابية الأخيرة من تحوّلات وما ستفرزه لاحقاً عبر إعادة تكوين السلطة التنفيذية بتشكيل حكومة جديدة، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. الجواب أنّ السلطة لم تتعلم شيئاً من الماضي، لم تتعلم إنّ الفترة السابقة كانت عبارة عن سياسيات بائسة وتحالفات على حساب المواطن والوطن وبدل أن يكون هناك عودة عن تلك السياسات والتقدّم بشكل جديد من الجمهور اللبناني، نرى أن هذه القوى تحاول تعويض خسائرها بمزيد من تقاسم الحصص.
القوى التغييرية أمام تّحديات كبيرة وهي ليست مدعوّة للدخول في سباق لانتزاع السلطة بل في تقديم نموذج لقيادة لبنان، وذلك بإنتاج رأي عام يقف خلف برنامج يحدّد الخيارات السياسية والإقتصادية، بمعنى تقديم مقاربة جديّة وتقنية حول المشاكل التي يعانيها الشعب اللبناني ترتكز الى تحفيز نقاط القوة التي يمتلكها لبنان. هذا البرنامج هو أساس التموّضع في موقع السلطة أو في المعارضة. إنّ الدخول في بازارات التسميّة الرائجة ومأزق التشكيل ومأزق الحقائب الوزارية سيؤدي بقوى التغيير الى الدخول في دوامة السياسة التقليدية القادرة على استنفاد كلّ الزخم الذي أتت به، وبالتالي فقدان الأمل بفتح كوّة في الجدار.