IMLebanon

تعقيباً على البيان المشترك لنوَّاب حاكم مصرف لبنان

 

فوجِئنا كما فوجئ سائرُ اللبنانيين، بالبيانِ الذي صدرَ مؤخَّراً عن نوابِ حاكِم مصرف لبنان، والذي حمَلَ في طَيَّاتِهِ تلميحاً عن نيَّتِهم جميعاً في الاستِقالةِ في حال لم يتِم تعيينُ حاكمٍ جديدٍ قبلَ انتهاءِ ولايَةِ الحاكمِ الحالي. ظاهِرِيَّاً حملَ نصُّ البيانِ في طَيَّاتِه دعوةَ صريحةً للمَعنيين في السُّلطتين التَّشريعيَّةِ والتَّنفيذيَّةِ لانتِخابَ رئيسٍ للجُمهورِيَّةِ بالنِّسبَةِ للأولى وتَعييينِ حاكِمٍ لِمَصرفِ لبنان في ما خصَّ الثانيةِ.

إن اقتَصرَ الغَرضُ من هذا البيانِ على هذا الظَّاهِرِ فهذا موقفٌ صائبٌ ومَحمود، وعلى جَميعِ الغَيورينَ على الوَطنِ أن يَحذوا حَذوَهُم ويَشدوا على أياديهِم ويُثنوا على صَوابيَةِ موقِفِهم، أمَّا إذا كان إصدارُ البيانِ قد جاءَ كخطوَةٍ تمهيديَّةٍ لاستِقالَةٍ جماعِيَّةٍ، ولو تقدَّم كل منهم على حدة بطلب استقالة، فهذا الأمرُ مردودٌ ومرفوضٌ جُملةً وتَفصيلا، مهما حاولَ البعضُ تغليفَهُ بلبوسِ الميثاقيَّةِ والالتِزامِ بالأعرافِ السَّائدَةِ أو الحِرصِ على التَّوافُقِ الوَطَني، ورَغبَةً في احتِرامِ رأيِ المُكوِّناتِ الوطنيَّةِ الأُخرى في الدَّولة، لأنه يَنطوي على تَهميشٍ لدَورِها كما على مَساسٍ بكراماتِ نُوَّابِ الحكمِ الحاليين لكونه يُظهرُهُم وكأنهم غيرَ جديرينَ بالإئتمان على تَسييرٍ هذا المِرفقٍ ولو لفَترَةٍ انتِقاليَّةٍ وجيزة، ولكونِه يخرجُ عن الأدبيَّاتِ الوَطنِيَّة، وإن كان القرارُ جاءَ بمثابةِ إعلانٍ مُبطَّن عن نيَّةِ الاستِقالَةِ بغرَضِ إظهارِ شيئٍ من التَّعفُّفِ والتَّعالي عن المصالِحِ الفئويَّةِ الضَّيِّقَةِ تَمهيداً لتأمينِ انتِقالٍ سَلِسٍ لمَهامِ الحاكِمِ إلى أحدٍ من نوابِه الحاليين من طائفةٍ أخرى (كما يُشيعُ البعضُ، وقد هيئ لهذا الأمرِ مُسبَقاً بتَولي نائبِ مديرِ الأمنِ العام مَهام المديريَّةِ بالوكالةِ بعد إحالةِ المدير الأصيل على التَّقاعُد). وفي كِلتَي الحالَتَين هذا الأمرُ مَرفوضٌ ومُدانٌ لأكثرِ من اعتِبار.

إن المناصِبَ الوَظيفيَّةَ أنَّا كانت مَرتبتُها التَّسلسُليَّةِ في السُّلَّمِ الإداري، يبقى تولي مَهامَها من قَبيلِ التَّكليفِ لا التَّشريف، فهي تَندَرِجُ في الأوقاتِ العادِيَّةِ في إطارِ الواجِباتِ الوَظيفِيَّةِ التي ينبغي على الموظَّفِ الإلتزامِ بها والقيامِ بأعبائها مُسَخِّراً كُلَّ ما لَديه من إمكاناتٍ جَسَدِيَّةٍ وفِكرِيَّة، فكيف الحالُ في ظِلِّ ظُروفٍ استثنائيَّةٍ قاهَرَةٍ كتلك التي نَشهَدُها اليوم، علاوةً على أن إعراضَ الموظَّفِ عن مُمارسَةِ المَهامِ المُناطَةِ به قانوناً تُصبِحُ من قبيلِ التَّنصُّلِ من الواجِباتِ الوَطنِيَّةِ (وإن كان لا يوجدُ نصٌ صريحٌ يقولُ بذلك)، وربَّما يَعتبرُها البَعضُ، وأنا منهم، أنها تَندرِجُ ضِمن الإخلالِ بالواجِباتِ الوظيفيَّةِ التي يُعاقِبُ عليها القانون، وإن لم يتِم تناولُها بالذَّاتِ في نصٍّ واضِحِ الفَحوى.

نائب الأصيل، من حيث المبدأ، ينبغي أن يكون مُتَمَتِّعاً من حيث الكفاءَةِ والقدرَةِ على تحمُّلِ المَسؤوليَّةِ بما لدى الأصيلِ من كفاءَةٍ عِلمِيَّةٍ ومَعرِفِيَّةٍ ومَزايا مناقِبيَّة، وإلَّا لما جازَ تَعيينُهُ بموقِعِهِ كنائبٍ عن الأصيل، والتَّهرُّبُ من هذا الواجِبِ عند استِحقاقِه ما هو إلاَّ تَهرُّبٌ من المَسؤولِيَّة، وهذا الأمرُ ينبغي أن يُطَبَّقَ على نُوابِ الحاكِمِ وغيرِهِم ممن توكلُ إليهم مَهامٌ وَظيفيَّةٌ تَقتَضي مَسؤولِيَّاتُهُم توَلِّيها، لأن المسألةَ ليست بخَيارٍ إنَّما واجِبٌ مُقرَّرٌ قانونا.

اعتَدنا خلال السَّنواتِ الأخيرَةِ على سَماعِ تنحي قُضاةٍ عن السَّيرِ في النَّظَرِ في قَضايا تَندَرِجُ ضِمن صلاحِياتِهِم واختِصاصِهِم من دون موجِب مُبرِّر، ذلك أن تنحي القاضي جائزٌ في حال شعورِهِ بالارتيابِ لِخشَتِهِ أن يكونَ مُتعاطِفاً مع أحدِ أطرافِ الخًصومَةِ على حِسابِ طرفٍ آخر، أو سبقَ له وأبدى رأياً في القضيَّة، أو قامَ بإجراءٍ من إجراءاتِ الملاحَقَةِ التي تَحولُ بينَهُ وبين الفَصلِ في القَضِيَّة، وهذا الأمرُ مَحكومٌ بغَرضِ الحِرصِ على تَحقيقِ العدالَة، أمَّا أن يكون قرار التَّنحي تَجنُّباً للإحراجِ نَظَراً لحَساسِيَّةِ المَسألَةِ المَعروضَةِ أمامَه، أو خِشيةً على مَركزِه أو لكونِ القرارِ المُفترضِ صُدورَهُ يَنطوي على تَبِعاتٍ غير شَعبَوِيَّةٍ فهذا تنصُّلٌ من مسؤولِيَّاتِه القضائيَّة، لأن حقَّ القاضي في التَّنحي مُكرَّسٌ حصراً لخِدمَةِ العدالَةِ لا لتَعطيلها، وهو يندرجُ في إطارِ الاستِنكافِ عن إحقاقِ الحق، ومن هذا المِنظارِ ينبغي القياسُ في مُقارَبَةِ حَقِّ الموظَّفِ في الاستِقالةِ، ولا يَخرجُ نوَّابُ الحاكِمِ عن هذا المَبدأ.

في الواقِعِ إن معرفتنا بأشخاصِ نوابِ حاكِمِ مصرفِ لبنان مَحصورَةٌ بشَخصِ النائبِ الأوَّلِ الدكتور في القانون وسيم مَنصوري، والتي توحِي لنا بأن لديهِ كل المُقوِّماتِ وما يكفي من المؤهَّلاتِ العِلمِيَّةِ والمَعرِفِيَّة اللَّازِمَةِ للقِيامِ بمَهامِ الحاكِم، تُعزِّزُها قُدراتُهُ المَعرِفيَّةُ القانونيَّة، وهذا يُشكِّلُ عامِلاً إضافيَّاً للقولِ بعدمِ جوازِ تخلِّيهِ عن هذهِ المسؤولِيَّة، نَظَراً لحَساسِيَّةِ المَرحلَةِ والتي تَتَطلَّبُ القيامَ بخَطواتٍ مالِيَّةٍ نابِعَةٍ من رَحمِ النُّصوصِ القانونيَّةِ التي ترعى الشُّؤونِ النَّقديَّةِ والمالِيَّةِ والمَصرفيَّةِ ومُكافَحَةِ تبييضِ الأموال؛ ويُعزِّزُ موقِفُنا هذا أنه من الأشخاصِ الذين لا غُبارَ عليهِم وَفقَ مَقاييسِ النَّزاهَةِ والشَّفافِيَةِ والحِسِّ الوَطَني. والنَّائبُ الأوَّلُ للحاكِمِ كما النُّوابُ الثلاثة الآخرين يَعلمون عِلمَ اليقين أن الفراغَ في الوَظائفِ العامَّةِ أمرٌ مَحظورٌ حِرصاً على استمراريَّةِ تأمينِ حُسنِ سَيرِ المُرافِقِ العامَّة، ولكونِ السُّلطةِ تأبى الفراغَ في الوَظيفَةِ العامَّةِ لذا لم يُغفِلِ المُشرِّعُ مَسألةَ مُعالجةِ الشُّغورِ في الوظيفةِ العامَّة، ومن هنا كان مبدأ الوِكالةِ في القِطاعِ العامِ بحيث يتولى الوَكيلُ مَهامَ الأصيلِ في حالِ غِيابِهِ أو تعذَّرَ عليه القيامُ بواجِباتِهِ أو في حالةِ شُّغور الوظيفة لأيِّ سبب آخر.

وبالعودَةِ إلى التَّلميحِ بالإستِقالة، فإن جاءَ احتِراماً للأعرافِ السَّائدَةِ، أو كبادِرةِ حُسنِ نيَّةٍ تجاه مكوِّنٍ وطني معني بالمركز، فهذا الأمرُ مَردودٌ لكونِ مسألةِ تَعييِن حاكِمٍ أصيلٍ في ظِلِّ حكومةٍ بحُكمِ المُستقيلَةِ وشُغورِ مَركزِ رئاسَةِ الجُمهورِيَّةِ أمرٌ في غايَةِ الخُطورَة، لاعتِباراتٍ عِدَّةٍ لكونِ صلاحيَّاتِ هذه الحكومةِ مَحصورَةٌ في تَصريفِ الأعمالِ بحدِّها الأدنى، ولكونها فاقدةً للثِّقةِ بحُكم اعتِبارِها مُستقيلَة، ويَعتبِرُ البعضُ، ونحن منهم، أن أيَّ تَعيينٍ مُلتبسٍ لِحاكِمٍ المركزي ينبغي ألاَّ يحصَلَ بهذه الخِفَّةِ وبخاصَّةِ في هذه الظُّروفِ العصيبة، فكيفَ إذا كان أحدُ المُكوِّناتِ الوَطنيَّةِ المعني مباشرةً بهذا الاستحقاقِ يَستشعِرُ محاولةً لتَغييبِ دورِه وتهميشِه، لذا نرى أنَّهُ في هذه المَسألةِ لا مَجالَ للتَّلطي خلفَ المَبدأ القائلِ بأن الضَّروراتِ تُبيحُ المَحظورات، في ظِلِّ وجودِ آليَّةٍ ترعى إناطةَ مَهامِ حاكِمِ المصرِفِ المَركَزي في حالِ شُغورِ المركَز، بأن يتولى النَّائب الأول القيام بالمَهامِ المُناطَةِ بالحاكِمِ لحينِ تَعيين حاكِمٍ أصيل، وإن تعذر لأي سببٍ مَشروعٍ توكَلُ إلى الحاكِمِ الثاني وهلُمَّ جرَّا وصولاً إلى الحاكمِ الرَّابع، وإلاَّ لما كان المُشرِّعُ قد نصَّ على تعيين أربَعَةِ نوَّابٍ للحاكِم، وهذا الخيارُ أقلُّ إضراراً من تَعيينِ حاكِمٍ غيرِ مُجمَعٍ عليه.

أما إذا كان الغرضُ من البيانِ المُشارِ إليه هو توطئةً لاستِقالةِ جَماعِيَّةٍ لنوَّابِ الحاكم خشيَةَ تحميلِهم مُجتمعين أو لأحدِهم تبعاتِ الانهيار المالي المُرتقَب، فهذا التَّصوُّرُ في غيرِ مَحلِّه، نظراً لأن القاصي والدَّاني، في لبنان كما في الخارج، يعلمُ أن حالةَ الانهيارِ التي يُعاني منها لبنان مَردُّها إلى الأداءِ السِّياسي الهابِطِ والمُتخبِّطِ للمُمسِكين بالسُّلطَةِ منذُ قرابةِ ثلاثةِ قرون، وليست وليدَةَ السَّاعَة، وأن ما نشهَدُه من أزماتٍ اقتِصاديَّةٍ وماليَّةٍ ونقديَّةِ ومعيشيَّةٍ ما هي إلاَّ انعكاساتٌ للأزمَةِ السِّياسيَّةِ المُستَحكِمَةِ منذُ عقودٍ، والتي أدَّت إلى تَعطيلِ المؤسَّساتِ وحالت دون إنجازِ الاستِحقاقاتِ الدُّستوريَّةِ في أوانها. وعليه نرى أن مثل هذه الهواجِسِ غير مُبرَّرة.

نقولُ للمُتَوجِّسينَ من انتهاءِ ولايةِ الحاكِمِ الحالي لمَصرفِ لبنان، أنَّه لم يعُد من مبَرِّرٍ للخَشيةِ من انهيارٍ اقتِصاديٍّ وماليٍّ ونقديٍّ، لأن الانهيارَ حَصلَ فِعلِيًّا، إنما نحنُ نَترَقَّبُ انفِجاراً لأزمَةٍ مُتَعدِّدَةِ الأبعاد: سِياسِيَّة، اقتِصادِيَّة، مالِيَّةِ، نَقدِيَّة، اجتِماعِيَّة، مَعيشِيَّة، أمنِيَّةٍ تربوِيَّة، أخلاقِيَّة… وبالتَّالي لن يتفاجأ أحدٌ ولن يُلامَ نوابُ الحاكِمِ مُنفَرِدينَ أو مُجتَمِعين في حالِ حُصولِ مثلِ هذا الإنفِجارِ بُعيدَ استلامِهِم لمَهامِ حاكِمِيَّةِ مَصرِف لبنان، وإن كان الحاكمُ الحالي قد نجحَ إلى حدٍّ ما في تأخيرِ الانفِجار، ولكن ذلك حصلَ على حِسابِ خزينةِ الدَّولةِ واحتياطي مصرف لبنان من العُملاتِ وأموالِ المودِعين وعَرَقِ جبينِهِم. وإن كان قد نجحَ بعضَ الشَّيءِ في لجمِ وتيرةِ الانهيارِ المالي إلاَّ أنَّ للمُعالجاتِ التي اعتَمَدَها في سياستِهِ النَّقديَّةِ التي ترجَمَها عَملِيًّا بتَعاميمِهِ المُتلاحِقَةِ مَخاطرَ جَسيمَةٍ سَتَتكَشَّفُ على المَدَيين المُتوسِّطِ والطَّويل الأمد، وأخطرُ ما فيها: تلك الهَندَساتُ الماليَّةُ والقُروضُ المدعومَةُ التي استَنزَفَت احتياطي المَصرِفِ وكبَّدَتِ الدَّولَةِ خَسائرَ فادِحَةٍ من شأنها تفويتُ فُرصِ التَّعافي والنُّهوضِ مُجدَّداً، لقد غيِّبَ عنها الفقراءُ ومحدودو الدَّخلِ، واستَغلَّها النافذون المَحظِيونَ من الأغنياءِ لزيادةِ ثَراوتِهم.

ثمَّةَ من يَسعَى من أهلِ السُّلطَةِ إلى التَّمديدِ للحاكِمِ الحالي، وثمَّةَ بحثٌ جادٌّ عن مَخارِجَ لإبقائهِ في منصِبِه، ولو بصوَرٍ مُختلفَة، تجديد ولاية أو تمديدها، الإبقاء عليه كمُستشارٍ فوقِ العادَة، وتَبريراتُ ذلك أن الحاجةَ لِشَخصِ الحاكِمِ الحالي مُلِحَّةٌ نظراً للثِّقَةِ الكبيرَةِ التي يوليه إيَّاها الرَّايُ العامُّ استِناداً لخبرَتِه المالِيَّةِ والنَّقديَّةِ الواسِعَة، رَغمَ الانتِكاساتِ المالِيَّةِ والنَّقدِيَّة، وكثرَةِ الدَّعاوى المُقامَةِ ضِدَّه في لبنانَ والخارِج، وخِشيَةَ أن تكونَ ساعةَ تَخلِّيهِ عن مَنصِبِهِ ستكونُ ساعَةَ الصِّفرِ لتَفجُّرِ أزمةٍ نقدِيَّةٍ غير مَسبوقَة، رُبَّما تُؤدِّي إلى انتِفاضَةٍ شَعبِيَّةٍ عارِمَة.

لا يَختلِفُ اثنان على ما لدى حاكمِ مَصرفِ لبنان من خِبرةٍ واسِعَةٍ وغنيَّةٍ في إدارَةِ مَصرفِ لبنان واعتِمادِ سياساتٍ نَقدِيَّةٍ جريئةٍ وغير اعتِيادِيَّة، وقد أظهَرَ في السَّنواتِ الثلاثِ الأخيرَةِ براعَةً مُلفِتَةً في إخراجِ الأرانِبِ النَّقديَّةِ من أكمامِه، إلاَّ أن الأصولَ القانونيَّةَ عامَّةً والإدارِيَّةِ بخاصَّةٍ تقولُ بعَدَمِ جَوازِ إبقاءِ مُوظَّفٍ يَشغُلُ مَنصِباً بأهَمِّيَّةِ حاكِمِيَّةِ مصرفِ لبنان في مَنصِبِه، وهو في الوقتِ عينِه ملاحَقٌ في عَشراتِ القَضايا التي تَنطَوي على جرائمَ مالِيَّةٍ تندرجُ توصيفاتُها بدءاً باختِلاسِ المال العام مُروراً بإساءَةِ الأمانَةِ وإساءَةِ استِغلالِ الوَظيفَةِ العامَّةِ وتبديدِ المالِ العامِّ والتآمُرِ على العِملَةِ الوَطَنيَّة، وخرقِ القانون. أما المنطقُ فيقولُ بضرورَةِ كفِّ يَدِه فوراً رَيثَما يَتَبَيَّنُ الخَيطُ الأبيَضُ من الخَيطِ الأسوَدِ لِجِهَةِ مَعرِفَةِ مدى تَورُّطِهِ في ما هو مَنسوبٌ إليه من ارتِكاباتٍ جُرمِيَّةٍ مالِيَّةِ الطَّابَع، قد تَستوجِبُ منعَهُ من السَّفرِ ورُبما توقيفَه، ومن دون أدنى شكٍّ هي تَستوجِبُ حَجزَ مُمتلكاتِهِ العَينيَّةِ والنَّقديَّةِ ضماناً لحُقوقِ الدَّولَةِ والمودِعين الذين بُدِّدَت أموالُهُم من دونِ وَجهِ حَقٍّ، جرَّاءَ سِياساتٍ نَقدِيَّةٍ مُلزِمَةٍ اعتَمَدَها الحاكِمُ وأقحَمَ فيها القِطاعَ المَصرفيَّ ولو جاءت استِجابةً لرغباتِ بعضِ الجِهاتِ النافذةٍ والمُؤثِّرةٍ في مَوقِعِ القَرار السِّياسي، وأيَّا يكن الأمرُ فهو مُخِلٌّ بواجباتِه ومَسؤولٌ عن تَبعاتِ السِّياساتِ المالِيَّةِ والنَّقدِيَّةِ والقراراتِ الخاطئةِ التي اعتَمَدَها أو اتَّخذها، على أن يُعادَ النَّظرُ بهذه الإجراءاتِ سَلباً أم إيجاباً على ضوءِ ما ستَخلُصُ إليه الملاحقاتُ العدليَّةُ القائمةُ من قراراتٍ فاصلةٍ في أساسِ النِّزاعات، ولتكن المُساءلةٌ عادلةً، بحيث يكرَّمُ في حالِ ثبُتت براءتُهُ (وهذا مُستبعَد)، ومُحاسبتُهُ إن أُدين بأيٍّ من الجرائمِ المُلاحَقِ بها.

وأخيراً نَخلُصُ إلى القَولِ بأن لبنان لم يعُد قادِراً على تَحمُّلُ المزيدِ من المُغامراتِ والرِّهاناتِ غير المدروسة، وأنه لأجدى بنوَّابِ الحاكِمِ أن يتَحلُّوا بالمَسؤولِيَّة، وليتولوا مُجتَمِعين تبَني رؤيَةٍ مالِيَّةٍ – نَقدِيَّةٍ إنقاذِيَّةٍ قادِرَةٍ على استِعادَةِ التَّعافي للعِملَةِ الوَطنِيَّة، وإنعاشِ الوضعِ المالي، وإعادةِ رمقِ الحياةِ للقِطاعِ المَصرِفي الذي يُعتَبرُ الشِّريانَ الحَيويَّ للاقتِصادِ الوَطني، ولو تطلَّبَ تَطبيقُها سَنواتٍ عِدَّة؛ وعليهم ألاَّ يَخشوا لومةَ لائم بعُزوفِ الحاكِمِ عن التَّمديد لولايَتِه، أو عَدَمِ رَغبَةِ المَعنيين في التَّجديدِ له، وألاَّ يكونوا مَطِيَّةً لتَمديدٍ مُلتبٍ، وعليهِم أيضاً ألاَّ يتوَجَّسوا من احتِمالِيَّةِ حُدوثِ انفِجارٍ مالي – نقدي، فهو حالٌ حُكماً بقي الحاكِمُ الحال أم تخلى عن منصِبه؛ وجُلَّ ما عليهم القيامُ به، هو اعتِمادُ منهجٍ مُبادرٍ، يقومُ على ابتِكارِ الحُلولِ من بُناتِ أفكارِهم المُبدِعة، باعتِمادِ حُلولٍ غيرِ تقليديَّةٍ تُحاكي الظُّروفَ الاستثنائيَّةَ التي نحن بصدَدِها، والخروجُ عن منهجِ الاكتِفاءِ بردَّاتِ الفِعل. وعليهم أن يعوا أن تَحَمُّلَ هذه المسؤوليَّةِ هو من صَميمِ واجِباتِهِم الوَطنِيَّةِ والأخلاقيَّةِ والإنسانيَّة وهم أحرارُ في هذا الخيارِ إن كانوا فعلاً نوَّابُ حاكِمينَ لا مَحكومين.