IMLebanon

نواب «ورقة النعوة»: مراسم محلّ المراسيم!

في ظل الجمود التشريعي والسياسي والإنمائي، تعطّل عمل النواب. بدل مجلس النواب باتت وجهتهم مجالس العزاء، ومحل العمل على المراسيم تحوّل جلّ اهتمامهم الى المراسم الجنائزية. نواب الأكاليل وأوراق «النعوة» والتوابيت، كيف يمضون أيام بطالتهم؟

جرت العادة في قرى الجرد أن تعمد النسوة الى ربط فم الميّت فور وفاته. أما اليوم، فيكاد هذا الأمر يُناط بالنواب وبالمرشحين الطامحين الى الوصول الى ساحة النجمة. قبل أيام، ما كاد يعلَن خبر وفاة «أبو جورج»، حتى كان أحد نواب كسروان يتنافس وزميله السابق على باب منزل المرحوم، كأنهما آتيان لربط فمه!

ومن كسروان الى المتن الشمالي، يتغيّر المتنافسون ويتعدّد المرحومون، لكن الهدف واحد: أصوات عائلة الفقيد. أحد نواب تكتل التغيير والاصلاح يستعجل الوصول الى منزل الفقيد، أي فقيد، قبل كل زملائه. ولولا «العيب والحيا»، يكاد يشمّر عن زنوده و»يدور» بصينية القهوة على المعزين لثلاثة أيام. ومتى عرف السبب بطل العجب: عندما يُسأل ابن أعالي المتن لماذا يفضل مرشحاً على آخر، يكون جوابه تلقائياً بأن الأول واسى العائلة، ولزم منزلها ثلاثة أيام، فيما الثاني لم يتكبد عناء «جبر الخاطر» حتى!

وفي غياب مشاريع القوانين والمراسيم، يستمرئ النواب العاطلون من العمل التعازي والمراسم. وبدل المجلس النيابي تتحوّل مجالس العزاء ساحات للتنافس على استقطاب الأصوات، وخصوصاً أن «الموسم هذا الشتاء دسم»، بحسب أحد النواب المتنيين، وأن «التعازي كثيرة والنهار اللي ما فيه شغل، بنعمل فيه خمس دفونة»، بحسب النائب السابق منصور البون. والأخير في كسروان، شأنه شأن النائب السابق طلال المرعبي في عكار، والنائب زياد أسود في جزين والمرشح مسعود الأشقر في الأشرفية، بات حضورهم مقترناً بالوفيات، فلا يكاد صاحب البيت يراهم حتى يسأل فوراً: «خير مين مات؟»!

في الماضي، كان النواب والمرشحون والوجهاء يتبلغون أخبار الوفيات عبر مختار الضيعة، أما اليوم، فباتت هذه، لأهميتها، إحدى المهمات الأساسية للهيئات الحزبية المناطقية، فضلا عن حرص كثيرين من أقرباء المتوفّين على نعيهم إلى السياسيين بأنفسهم.

شركات دفن

الموتى وصفحات الوفيات مصدر أساس

لـ داتا الموتى»

أما من لا حزب وراءه، فلن يعدم وسيلة للوصول الى «داتا المتوفّين». يشرح أحد السياسيين أنه يستقي معلوماته من صفحات الوفيات في الجرائد، فيما يشير آخر إلى تعاقده مع معظم شركات دفن الموتى في منطقته: «يرسلون إلي يومياً قائمة بأسماء الأموات، فأدقق مع جماعتي فيها لأتأكد مَن مِن المنطقة، ومن هو مجرد مقيم، وأطلب على هذا الأساس من الشركة إرسال إكليل من الورد أو صليب أو عدم إرسال شيء». ولا يحول هذا كله دون الوقوع في بعض المواقف المحرجة، كأن يقصد كنيسة بدل أخرى، أو يدخل صالوناً بدل آخر في الكنيسة نفسها، أو أن يواسي عائلة الميّت قائلاً: «الله يرحمو كان آدمي»، ليكتشف أن المرحوم امرأة!

ويروى أن رئيس حزب الكتائب الراحل بيار الجميل لم يكن يفوّت عزاء حتى في عزّ أيام الحرب، وعندما سئل كيف يفعل ذلك وحزبه يخوض معارك شرسة على الجبهات، أجاب: «نحن نقاتل للحفاظ على هذه التقاليد». ومع أن الرئيس أمين الجميل ونجله النائب سامي الجميل لم يسيرا على خطى الأب المؤسس، إلا أن لكل قضاء «جميّله». في عكار لا يترك النائب السابق وجيه البعريني عزاء يعتب عليه. وفي جبيل، يؤدي النائب سيمون أبي رميا الدور نفسه، كما يؤديه في بعبدا نواب التيار الوطني الحر، وفي كسروان النائب السابق منصور البون. وفي المتن الشمالي، كانت للنائب ميشال المر شهرة واسعة في هذا المجال، إلا أن نشاطه تراجع أخيراً لمصلحة النائبين ابراهيم كنعان وغسان مخيبر، والمرشح العوني جورج عبود، والمرشح القواتي ادي أبي اللمع.

في غالبية الأحيان، تصبح التعازي نوعاً من «الإدمان». ويكون أول ما يحرص عليه النائب فور بدء نشاطه الاستفسار: «مين عنا ميّت اليوم؟». ومجالس العزاء تمثّل مناسبة لبعض النواب من أجل توطيد علاقتهم بناخبيهم، ومكاناً للثرثرة والاطلاع على أخبار البلدات والعائلات. أبي رميا يجدها طريقة فضلى للوقوف الى جانب القاعدة الشعبية، والتواصل معها ومعرفة همومها، نافيا أن يكون قد أدى واجبات التعازي ولو مرة في منزل عائلة لا يعرفها: «المواطن بيكون بيعرف 300 شخص، أما النائب، فيعرف نحو 20 أو 30 ألف شخص، وبالتالي حين أعزّي في مكان ما أكون على معرفة وثيقة بأحد أفراد العائلة».

من جهة أخرى، قد تكون التعازي فرصة لاثبات النفس والاستعراض أمام أبناء البلدة، وحدث ولا حرج هنا عن تنافس نواب المتن، مثلاً، حول من يمثل الجنرال ميشال عون في دفن «أم ريمون»، ومن يقف قرب عائلة «أبو جوزيف» لتقبل التعازي بفقيدها برغم عدم معرفة النائب بالفقيد أو بأهله! اذ واذا صدف أن أرسل عون نائباً يمثله الى مسقط رأس نائب آخر، تشتعل المعارك بينهما، وخصوصا إذا رحّب المطران بممثل الجنرال وأغفل اسم نائب البلدة أو مرشحها! وقد أدى تفاقم الأمر الى اعتماد المطارنة طريقة جديدة للترحيب عبر ذكرهم «أصحاب المعالي» من دون تسميتهم بالأسماء.

الصلبان للزعماء

يحرص العماد ميشال عون ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع على التعازي عبر إرسال صلبان مشكوكة بالورود باسمهما الشخصي. أما النواب والمرشحون، فيكتفون بارسال الأكاليل، باستثناء النائب ابراهيم كنعان، والمرشح جورج عبود، اللذين يحذوان حذو الجنرال. ومعلوم أن الصلبان أغلى من الأكاليل، وعادة ما تكون محل تقدير أكبر لدى عائلة المتوفى، وهي نوعان: صليب وروده مشكوكة يراوح ثمنه بين مئة ألف ليرة ومئة دولار، وصليب مغلف بنايلون مع ورود منثورة حوله ثمنه 60 ألف ليرة. واذا ما احتسبنا أن الحدّ الأدنى من واجبات التعازي لا يمكن أن يقل عن الثمانية في الأسبوع الواحد، يصبح لزاما على النائب أو المرشح تخصيص ميزانية شهرية لهذا الأمر. علما أن النائب يلتزم قضاءه، فيما عون وجعجع ملزمان الاهتمام بكل الأقضية. ويقدّر أحد الناشطين نفقات الرجلين نحو 10 آلاف شهرياً.

والى جانب الصليب، تتكفل الأحزاب والمرشحون الميسورون بدفع ثمن النعش اذا كان الفقيد حزبياً أو ينتمي الى عائلة لا تؤيدهما تماماً؛ ما يجعل أفراد العائلة مدينين أخلاقيا للمتبرع. ويراوح سعر التابوت بين ألف وثلاثة آلاف دولار بحسب نوعه وحجمه، أما إذا كمّل المتبرع «جميله»، فيتكفل بالقهوة والطعام وحجز صالون الكنيسة ورجال الدين، وأحيانا دفع ثمن الباس الميّت.

حماسة الجميل و«بلفة» البون

يروي أحد السياسيين أن رئيس حزب الكتائب أمين الجميل كان حاضرا خلال وصول نعش الشاعر الراحل سعيد عقل الى الكنيسة، حيث بدأت تتوافد الحشود السياسية والاعلامية والفنية والشعبية لتقبيل النعش. ومن فرط حماسة الجميل، لم يميز بين حوض الزهور والنعش، فانقض فوق الحوض يقبله بحرارة، ظنا منه أن فيه جثة سعيد عقل. وفي حادثة اخرى، كان النائب السابق كميل زيادة جديداً على الساحة السياسية، فبدأ بمرافقة النائب السابق منصور البون في واجبات التعازي. داخل الكنيسة، كان يمكن الاستعاضة عن ارسال الأكاليل بالتبرع بمبلغ لا يتعدى مئة دولار أو 200 ألف ليرة، فيما كان البون يحثّ صديقه على التبرع بأربعمئة دولار دفعة واحدة بعد الاتفاق مع المسؤولة عن الصندوق بوضع 300 دولار باسمه، و100 دولار باسم زيادة. الأخير اكتشف اللعبة بعد فوات الأوان، فما كان من البون الا أن وعده بحسم المبالغ المدفوعة من مصاريف اللائحة!