عندما يكون الحاضر هو الزمن البائس فلا بد عندئذ من العودة الى زمن الماضي الجميل، أي الزمن الذي كانت الأكثرية النيابية المنبثقة من انتخابات حرة نزيهة تحكم والاقلية تعارض الى أن تصبح أكثرية فتحكم والأكثرية أقلية فتعارض، وان تتألف الحكومات من أعضاء منسجمين ومتجانسين كي يسهل اتفاقهم على البيان الوزاري والدفاع عنه أمام مجلس النواب عند طرح الثقة، ويسهل عليها تالياً تنفيذ ما جاء في بيانها.
لقد فقد لبنان استقراره السياسي والأمني والاقتصادي مذ تخلى عن تطبيق ديموقراطية الأكثرية وأحلَّ مكانها بدعة “الديموقراطية التوافقية” التي أعطت ممثل كل مذهب أو طائفة فيها حق “الفيتو” بحيث أن القرارات المهمة لا تصدر إلا بالاجماع وليس بالأكثرية التي نص عليها الدستور، أي أكثرية عادية لمشاريع معينة وأكثرية الثلثين لمشاريع مهمة حددها الدستور.
الواقع أن العودة الى الديموقراطية العددية تحتاج الى الغاء الطائفية السياسية، واذا تعذّر ذلك في الوقت الحاضر، فلتكن الاحزاب وطنية كما كانت في الماضي. فحزب “الكتلة الوطنية” كان يضم شخصيات من مختلف المذاهب والمناطق، وكذلك حزب “الكتلة الدستورية“. وكان الصراع في الانتخابات النيابية صراعاً سياسياً وليس مذهبياً أو طائفياً. فالرئيس صبري حمادة، مثلاً، كان يخوض الانتخابات على لائحة “الكتلة الدستورية” ينافسه خاله الشيخ فضل الله حمادة على لائحة “الكتلة الوطنية“. وكان الأمير مجيد أرسلان يخوض الانتخابات على لائحة “الكتلة الدستورية” وشقيقه الأمير نهاد يخوضها على لائحة “الكتلة الوطنية“. وكان المرشح المسلم يفوز أحياناً بأصوات المسيحيين والمرشح المسيحي يفوز بأصوات المسلمين لأن الناخب لم يكن ينتخب مسلماً أو مسيحياً بل كان ينتخب خطأ سياسياً ومبادئ خلافاً لما أصبح عليه الوضع اليوم ويا للأسف، اذ صار الناخب ينتخب مذهبياً وطائفياً. ولم يكن تشكيل الحكومات يتم كما يتم اليوم، إذ كان كل حزب أو تكتل يشارك فيها على أساس مطالب ومشاريع إذا قُبلت تمت المشاركة وإذا رفضت فلا مشاركة. وعندما تقر الحكومة مشاريع أو تتخذ قرارات خلافاً لموقف وزير او اكثر، كان على المخالفين إما أن يرضخوا لما تقرره الأكثرية وإما أن يستقيلوا. أما اليوم فالحكومات تتألف من أضداد لا يجمعهم رأي واحد حول كثير من المشاريع والمواقف فتصاب الحكومة بالشلل وتتعطل مصالح البلاد والعباد. فالوزير الذي لا يرضخ لما تقرره الحكومة بالأكثرية يرفض توقيع المرسوم عند صدوره، ولا يكتفي بمخالفته داخل مجلس الوزراء بل خارجه أيضاً، وهو ما حصل غير مرة مع وزراء “حزب الله” فانسحبوا من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة احتجاجاً على النظام الداخلي للمحكمة الخاصة بلبنان، ولم يوافق الحزب على تعيين بدائل منهم كي تبقى الحكومة عرجاء أو غير ميثاقية، ولم ينسحبوا من حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عندما قرروا منفردين التدخل عسكرياً في الحرب السورية ليجعلوا الحكومة بكل أعضائها تتحمل عواقب هذا التدخل، ما اضطر الرئيس ميقاتي الى تقديم استقالة الحكومة لأن وزراء فيها خالفوا سياسية “النأي بالنفس” التي على أساسها نالت ثقة مجلس النواب، في حين أن المنطق يفرض استقالة الوزراء المخالفين لهذه السياسة وتعيين بدائل منهم. وها ان وزراء الحزب اتخذوا مواقف ضد الاجماع العربي خلافاً لرأي الحكومة فحمّلوها مسؤولية هذه المواقف حيال العرب. فلا الحكومة تستطيع أن تستقيل خشية الوقوع في الفراغ الشامل، ولا الوزراء المخالفون يستقيلون لكي يتحملوا وحدهم مسؤولية مواقفهم. وكان “حزب الله” قد دخل في حرب مع اسرائيل في تموز 2006 من دون علم الحكومة فاضطر رئيسها السنيورة لتجنيب لبنان ضربات اسرائيل لمرافق لبنان الى التملص من المسؤولية بإصدار بيان رسمي يعلن فيه أن لا علم للحكومة بتلك الحرب…
لذلك ينبغي العودة الى الاصول والدستور في حكم البلاد بدءاً بقانون عادل ومتوازن تجرى الانتخابات النيابية على أساسه بحيث تعود الأكثرية التي تفوز فيها وتحكم وتكون لها سياستها التي تحاسب عليها في المجلس، وأن يتم تشكيل الحكومات من ممثلي احزاب وكتل متجانسة ومنسجمة في الموقف كي تستطيع أن تكون منتجة. وعلى كل وزير يمثل حزباً أو مذهباً يرى أن الحكومة اتخذت قراراً لا يعجبه أن يستقيل منها لا أن يظل في الحكومة ويفتح على حسابه كما هي الحال اليوم ويدفع لبنان بكل مكوناته الثمن.
الواقع أن شيئاً لن يتغيّر مع أي رئيس للبنان إذا ظلت سياسة التوافق والتراضي هي المعمول بها، ويتساوى فيها الرابح والخاسر في الانتخابات لتظل الاقلية تتحكم بالأكثرية من خلال الثلث المعطّل لكل ما لا تريده، ولا شيء يتغيّر إذا ظل سلاح “حزب الله” هو الآمر الناهي، بل يجب اعتبار كل سلاح خارج الدولة سلاحاً غير شرعي ويتم التعامل معه على هذا الأساس ليبقى سلاح الدولة وحده هو المسؤول عن حماية لبنان وشعبه وصد كل اعتداء يقع على حدوده أو داخل حدوده، وإلا فلن تقوم دولة قوية ولن يكون استقرار دائم وثابت.