تنطبق على المخاطرة الصاعقة للرئيس سعد الدين رفيق الحريري والمتمثلة بإعلان ترشيحه العماد ميشال عون، الفقرة الإستهلالية التفاؤلية لنشرة «الأخبار» المسائية لمحطة تلفزيون «إم. تي. في» التي نالت من رصانة النشرة ومقدميها تلك المبالغة في إشراك الجمهور المتابع للنشرة وعلى مدى أيام سابقة في أمور وخلافات مصالحية شخصية لا علاقة للجمهور الرحب للمحطة المُرِّية بها.
الفقرة المشار إليها هي «رغم كل شي». ونحن إذا أمعنَّا تأملاً في المشهد السياسي اللبناني طوال عشر سنين خلت سنجد أن الرئيس الحريري أغمض عينيه وهو يقرأ في كتاب الأزمة الشخصية والعامة عن الصفحة الأكثر إيلاماً في هذا الكتاب، إنما من دون أن ينزع هذه الصفحة من الكتاب، ذلك أنها تتصل بمفاصل لا يمكنه إقتلاعها كمَن يقتلع شوكة من جسد. وهو إذا كان سيضع أمامه على الورق ما الذي مُنيت به الحريرية كعائلة وكسياسة وما قيل فيها من كلام يتجاوز الأصول بل ويمس الكبرياء والذمة، وما حيك ضده في الكواليس بغرض تهميشه من مناورات تبقى أقل إيلاماً من الذي حاكوه ضد والده… إن الرئيس سعد الدين الحريري إذا كان سينهج هذا التعاطي مع الحالة الخاصة والعامة فهذا يعني أنه سيبقى يتنقل بين العواصم المعنية بالوضع اللبناني، كل عاصمة بمقدار ووفق رؤية ليس بالضرورة أن تكون متناغمة مع رؤى الآخرين. وفي هذا التنقل الذي لا يثمر يقول أكثر مما يقال له، ويعود واضعاً على الورق عبارات أهم ما فيها أنها تجعله يثابر فلا ييأس ويُرضي إلى جانب عنفوانه، ضميره الوطني.
وهو إلى ذلك كان سيبقى في تصريحات يدلي بها، أو مقالة يكتبها رداً على مقالة، كما لو أنه المتحدث الرسمي بإسم لبنان الحريري «المستقبَلي» رداً على ما يقوله المتحدثون الرسميون بإسم لبنان السوري – الإيراني الهوى. ومثل هذا الدور لا يحقق إنفراجاً في الأزمة ولا يُخفّف من إندفاع الكارثة الإقتصادية تضرب لبنان وتُثبِّت صفته على أنه دولة فاشلة بإمتياز.
كما أنه في حال كان لا يناور فهذا يعني أنه لاعب خارج الحلبة السياسية. ذلك أن المناورة أو التكتكة لها فِعْل الإستراتيجية بالنسبة للاعب السياسي. وهو في حال كان لن يرمي في بركة المياه حجراً يحرك سكون هذه المياه، فهذا يعني أنه سيستهلك الوقت في الحديث حول التمنيات التي هو ليس الوحيد في التعبير عنها، ذلك أنه على مدى سنتيْن كاملتيْن فاضت صفحات الصحف والفضائيات بالتمنيات من أهل السياسة والمرجعيات الدينية ومن عشرات المسؤولين الدوليين وسفراء الدول الحادبة على لبنان أو حتى التي أدرجتْه في «أجندة» وسائل الصراع الذي تخوضه.
وإلى ذلك إن الرئيس سعد الدين الحريري والذي من حقه إستعادة دور سياسي إختطفوه منه ضمن ملعوب سياسي غير محترَم، إنسان متدين ويخاف الله كما مخافة والده لرب العالمين. وفي هذا السياق يبدو على رغم العلقم المستوطن نفسه من الذي أجرموه وفعلوه وقالوه وألَّفوه، مستحضِراً في ما يفعل قول الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم «يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تُنفِّروا» وكذلك قوله «من دلَّ على خير فله أجْرُ فاعِله». ونقول ذلك على أساس أن الرئيس سعد الدين الحريري في ما يفعل وقياساً بمواقف آخرين نراه يرمي إلى إبدال التعسير بالتيسير ويبشِّر بأحوال تبقى على ضمور نتائجها أفضل بكثير من الأحوال الراهنة.
كما أنه في ما يفعله يُؤكّد بضعة أمور لعل أبرزها ترويض العماد ميشال عون هدياً بالحكمة الفرنسية التي تتلخص بعبارة «آفة القوة إستضعاف الخصم» وهدياً أيضاً بالحقيقة الثابتة وهي أنه لا معارضة دائمة. ونحن عندما نقارن بين طروحات العماد عون ماضياً قبل إعلان الترشيح من عرين الرئيس الحريري وبين ما سمعناه يقوله نجد أن هنالك «عونية جديدة» أو «عونية معدَّلة» وهذا إنجاز وبصرْف النظر عن ملامح الدهشة في بعض الوجوه الحريرية من إعلان ترشيح العماد عون، كما بصرْف النظر عن إنعدام التصفيق من جانب الحريريين الحاضرين مناسبة الترشيح للعماد عون بعدما أنهى إلقاء كلمته ربما لإغفاله المضمون الرئيسي لكلمة مرشِّحِه والذي لقي إستحساناً نسبياً من الحاضريْن عبَّروا عنه بتصفيق فاتر وغير المألوف في أكُّفهم خلال مناسبات حريرية تعبوية. ولو أن العماد أورد في كلمته المضمون المشار إليه لما كان للقائه أن يحدث بالسيد حسن (ليلة الأحد 23 تشرين الأول 2016).. هذا إذا كانت لن تحدث جفوة يطول أمدها.
وثمة مسألة مهمة تتعلق بهذا التحرّك الذي نعيش مفاعيله، وهي أن الرئيس سعد الدين الحريري إتخذ خطوته في ضوء إستنتاج مواقف بعض العرب والدوليين والإقليميين إزاء لبنان الأزمة حاضراً ومستقبلاً. وعلى هذا الأساس فإنه في ضوء جولاته التي شملت المملكة العربية السعودية وروسيا وأميركا وفرنسا عدا إتصالات بقيت ظروفها ونتائجها طي الكتمان، بات الأدرى بالشعاب العربية والإقليمية والدولية في الموضوع اللبناني المتأزم. وحتى إذا كان لم يشمل في تَحرُّكه إيران فإن الموقف الإيراني ليس عصياً على التشخيص، ذلك أن أُولي الأمر في إيران وكذلك السيّد حسن نصر الله في لبنان لا يقولون من الكلام ما يستعصي تفسيره.
خلاصة القول إن الرئيس سعد الدين الحريري بالتحرك الذي قام به كان يمثِّل الأكثرية اللبنانية الشعبية التي كادت الأزمة ترمي بالجميع في المجهول. وحتى الذين إمتعضوا أو أصابتهم صدمة وهو أمر طبيعي يعيشه الجمهور الحريري كما جمهور «حزب الله» بسبب أجواء الشحن طوال سنين، فإنهم ضمناً كانوا يتمنون لهذا التحرّك بلوغ منتهاه وعلى نحو ما سمعوه من كلام الرئيس الحريري.
وقد نجد من يقارن بين الذي حدث في «بيت الوسط» مساء يوم الخميس 20 تشرين الأول 2016 عندما جاء العماد عون طالباً الود والشراكة السُنية السياسية للمارونية السياسية في إنهاء الأزمة ولو على صينية من المحاصصة مطمئناً إلى أن الشيعية السياسية والدرزية السياسية لن تخذلاه، وبين الذي حدث يوم السبت 19 كانون الأول 2009 في «قصر تشرين» في دمشق عندما إجتمع الرئيس سعد الدين الحريري بالرئيس بشَّار الأسد ودام إجتماعهما ثلاث ساعات. هذه المرة كان الزائر هو العماد عون إلى «بيت الوسط» والهدف واحد. زمنذاك كانت الصورة التي تجمع الرئيسيْن بشَّار وسعد الدين الحريري بعرض نصف الصفحة الأُولى وبعناوين: «الحريري يجري محادثات مع الأسد لتطوير العلاقات بين الدولتيْن». وكان الإجتماع يبعث ملامح تبدُّل نوعي لجهة تمتين الصداقة المجروحة كما كانت على طاولة الركن الذي تمّ فيه اللقاء أنواع من الورود. أما إجتماع «بيت الوسط» مساء الخميس 20 تشرين الأول 2016 فإنه بدأ أولاً بجلوس العماد المتطلع إلى الرئاسة الأُولى ومضيفه المتطلع إلى إستئناف دوره رئيساً للحكومة على كنبة واحدة أمامها وربما عن سابق قصْد طاولة عليها بيادق لعبة الشطرنج، ربما دلالة على خشية أن يفوز أحدهما، وربما مجرّد صدفة.
مع خير التمنيات لبلوغ رحلة الألف ميل الحريرية الميل الأخير جنباً إلى جنْب بين الضيف والمضيف، والله المستعان.